تاريخ الجزائر من خلال صحف الشيخ أبي اليقظان

الموضوع في 'تاريخ الجزائر' بواسطة أمة الرحمن الجزائرية, بتاريخ ‏11 أكتوبر 2011.

  1. أمة الرحمن الجزائرية

    أمة الرحمن الجزائرية طاقم الإدارة مشرف

    تاريخ الجزائر
    من خلال صحف الشيخ أبي اليقظان
    محاضرة للأستاذ الحاج موسى ابن عمر
    مقدمة
    بداية أود أن أقول إنه من غير الممكن أبدا في مقام ضيق كهذا أن نحيط بتاريخ الجزائر من خلال صحف الشيخ إبراهيم أبي اليقظانرحمه الله، ذلك أن كل جملة مفيدة مما تتضمنه صحفه الثمانية التي كانت تصدر ما بين سنتي 1926 م و 1938 م تشكل جزءا من المادة التاريخية الضخمة التي تمكن الباحث من إنجاز أبحاث ودراسات يصعب حصرها ، ولا شك أن العديد منها سيسهم في كتابة تاريخ الجزائر.
    أقول هذا في وقت لا تزال إشكالية كتابة تاريخ الجزائر مطروحة :
    هل هي كتابة تحت إشراف رسمي أم هي كتابة مستقلة ؟
    هل هو تأريخ لجزائر متوسطية في منطقة أوروأفريقية أم لجزائر عربية مسلمة ذات امتداد أمازيغي ؟
    ما مصير ما كتب ولا يزال يكتب حول تاريخ الجزائر بأقلام المدرسة الاستعمارية الفرنسية الذي أصبح يعد بالمئات من المؤلفات حول الثورة الجزائرية لوحدها ؟
    ما هي الجهود التي تبذل حاليا – ي وأكاديميا – حول تأسيس مدرسة تاريخية وطنية جزائرية ؟
    وحسبنا في هذا المقام أن نضع من خلال هذا المصدر التاريخي الهام أهم المعالم التي بها يتجلى تصور أكثر وضوحا لتاريخ الجزائر.
    1 - الظروف التي ظهرت فيها صحف الشيخ أبي اليقظان

    اختلف معاصرو فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى في وصف الحالة العامة في الجزائر ، فقد شهد بعض الكتاب سنة 1925أن الجزائر كانت نقطة هادئة وسط منطقة هائجة(1)، في حين أنذر آخرون بأنها وإن كانت تبدو في حالة ركود إلا أنها تتحرك في الخفاء مما سيسبب قريبا تلاطما ت على السطح(2).
    لكن مراسل جريدة النيويورك التايمز التي كانت تعتبر حينئذ من أحسن الجرائد التقاطا للأخبار قلل من جدية تلك النذر كاتبا :"رغم التقارير المنذرة التي يرسلها بعض المراسلين الصحفيين عن توقع حدوث اضطرابات...فإن الجزائر هادئة" (3).
    ومهما يكن من أمر فإنه بالنظر من بعيد نجد أن عقد العشرينيات كان عقدا حاسما في تاريخ الجزائر؛فإذا كانت الحرب لم تأت بأي حل للمشكلات الجزائرية،فإن نتائج الحرب قد تركت بصماتها على كل مظهر من مظاهر الحياة تقريبا في الجزائر مما كان لهذه الحرب من وقع لا يصعب على الملاحظ تحسسه.
    وغالبا ما يشير بعض الكتاب إلى أن ذلك راجع إلى تأثير الأحزاب الفرنسية الراديكالية والنقابات العمالية وتنقلات الجزائريين إلى فرنسا إضافة إلى أحداث الشرق الأدنى ونقاط ويلسون الأربع عشرة والثورة البلشفية وانتصار القومية في أوروبا ( 4) .
    إن مما يجدر التأكيد عليه هو أن الانتخابات البلدية التي جرت بالعاصمة في ديسمبر 1919 شكلت محطة إقلاع جديدة في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية فلقد أفضت من جهة إلى انقسام النخبة إلى اندماجيين و مناهضين للاندماج و أدت من جهة أخرى إلى ظهور زعيم جديد هو الأمير خالد الذي ساعدته سمعة عائلته على الفوز في هذه الانتخابات كما كشفت حقيقة الرأي الجزائري الرافض للإدماج .
    لكن نفي السلطات الفرنسية للأمير خالد أفقد هذا الفريق قوته الدافعة،وقد أخذ الليبراليون منه شعار المساواة في الحقوق والواجبات بينما أخذ أفكاره الانفصالية نجم شمال إفريقيا الشمالية الذي ظهر على الساحة سنة 1926 بمبادرة من جماعة من المهاجرين المغاربة بفرنسا وخصوصا الجزائريين وكان معظم أعضائه من العمال و الجنود السابقين الذين أقاموا بفرنسا طلبا للعمل بعد انتهاء عقودهم مع الخدمة العسكرية . وقد كان برنامج حركة النجم مشكلا من مرحلتين:
    - ما هو فوري يبنى على أساس المساواة بين الجزائريين و الفرنسيين على كل المستويات
    - وما هو ثوري يرتكز على أساس الاستقلال التام للجزائر وجلاء الجيش الفرنسي منها .
    وبالرغم من أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد ولدت رسميا في ماي1931 فإن جذورها تعود إلى مطلع القرن العشرين أي إلى أفكار الشيوخ الونيسي والمجاوي وأطفيش وابن سماية وابن الموهوب وغيرهم فلقد شهدت فترة 1919 – 1930 تأسيسا فعليا لحركة العلماء المستقلة بإصدار الصحف وبناء المدارس وإنشاء النوادي الثقافية ونشر التاريخ الوطني إلخ... ,وبذلك فقد كانت الجمعية تنشط خلال العشرينيات بغير اعتماد.
    وهكذا فإن المستعمرة الهادئة كانت تمر على تجربة حاسمة خلال هذا العقد؛ فوقع الحرب,وظهور الأحزاب والتيارات السياسية ودخول الأفكار الجديدة كانت مميزات هذه الفترة (5)
    ولقد اعتبر الفرنسيون عام 1930 انطلاقة مرحلة جديدة من الانتصارات في الجزائر،حيث دخلوا القرن الثاني من احتلالها وهم في غمرة من النشوة والزهو معتقدين بقاءهم فيها إلى الأبد،فرفع الغلاة منهم شعارات معادية للعرب والإسلام واصفين احتلالهم للجزائر افتكاكا لها من الحضارة الإسلامية وإعادتها إلى الحضارة الرومانية التي ينتسبون إليها آخذين بقبضة من حديد أزمة الأمور ،خانقين أنفاس كل من سولت له نفسه من الجزائريين محاولة تنظيم سياسي معتبرين ذلك إجراما و كفرانا بنعمة فرنسا عليهم أو خيانة وعمالة لدولة أجنبية. وهكذا خنقوا حركة الأمير خالد في مهدها ، وحلوا حركة نجم شمال إفريقيا، وأجبروا النواب المستقلين على الانصياع ، و أوجدوا من حولهم بطانة لا تعرف إلى المعارضة و الرفض سبيلا. وفي هذا الفراغ صفا الجو للمعمرين فغدوا هم السلطة الحقيقية في البلاد يمارسون ضغوطهم على الحاكم العام والأجهزة الإدارية والمالية، ويؤثرون بممثليهم ودعايتهم وأموالهم في كواليس البرلمان الفرنسي ووسائل الإعلام وحتى في الحكومة الفرنسية المركزية بباريس. غير أن اشتداد الأزمة يحمل بين طياته بشائر الانفراج، فلم يكد يسدل ستار الاحتفالات بالذكرى المئوية للاحتلال حتى بدأ ميزان القوى يتغير لصالح الحركة الوطنية رغم استمرار الضغوط عليها .
    فمن جهة تعرضت فرنسا لأزمة اقتصادية حادة على غرار أوروبا وأمريكا ساعدت كثيرا على الكشف عن نقاط ضعفها في المستعمرات ودخلت بذلك في دوامات عدم الاستقرار داخليا وخارجيا ، ومن جهة أخرى واصلت حركة النجم نشاطها في السر حتى أعلنت عن نفسها من جديد باسم حزب الشعب الجزائري ابتداء من سنة 1937 واشتد عوده في كل من الجزائر وفرنسا ،كما شكل ميلاد جمعية العلماء سنة 1931 ظهور تحولات عميقة في الذهنية الوطنية ،وهزة عنيفة لكيان المجتمع ومستقبل الأمة في الجزائر، بالإضافة إلى جماعة النخبة من النواب وغيرهم الذين نزعوا إلى الاستقلال بآرائهم تدريجيا والإلحاح في مطالبهم وبقوة أحيانا لتجسيد المساواة مع الفرنسيين، وقد تهيكلت حركتهم في أحزاب سياسية للضغط على السلطات الفرنسية ، ولقد كان لكل تيار وسائله للعمل السياسي والدعائي من جمعيات وصحافة ونواد. وهكذا تغيرت واجهة الجزائر السياسية خلال الثلاثينيات بالرغم من ثبات وضع الاستعمار على ضلاله القديم(6).
    2- تصنيف المحتوى بإمكاننا أن نصنف محتوى الصحف اليقظانية على غرار كل الصحف الصادرة بالجزائر إلى صنفين اثنين:
    أولهما يهتم بالمسائل التي ليس لها صلة مباشرة بالشأن الجزائري ، وهذا القسم لا يعنينا في موضوع هذا البحث.
    ثانيهما يعنى بالمسائل والأحداث ذات الصلة المباشرة بما كان يجري بالقطر الجزائري وهذا هو موضوع بحثنا.
    وينقسم هذا الصنف بدوره إلى قسمين:أحدهما إخباري صرف يؤِدي المهمة الصحفية التي من أجلها وجدت أية صحيفة، ويكتفي بتسجيل الوقائع والأحداث كما هي في الواقع. والغرض من ذلك إعلامي بطبيعة الحال،وذلك بإنارة الرأي العام بما هو جديد على مسرح الأحداث . ويتميز محتوى هذا الجزء بالجدة والمسارعة فيه إلى مصادر المعلومات للفوز بالسبق الصحفي والاحتفاظ بوفاء القراء .
    والواقع أنه من غير الممكن- في تقديري – أن تتجرد مادة هذا الصنف من كل ميل ، وتلتزم الحياد التام ، إذ لسنا بحاجة إلى الإشارة بأن مجرد اختيار الأخبار وانتقائها من بين عدة أخبار إنما يندرج ضمن خطة تعتمدها هذه الصحيفة أو تلك ،ويكون غرضها في آخر المطاف تركيز الاهتمام على جملة من القضايا تحتل الأولوية عند صاحب الصحيفة ، فضلا عن اختيار موقع الخبر في صفحات الجريدة و طريقة عرضه شكلا ومضمونا .
    ومثل ذلك مقال نشرته صحيفة (برقية الجزائر) للمسيو (باروكان) حول موضوع الأهالي والاندماج ،تعرض فيه لمزاعم جماعة النخبة ومطالبتهم بالإدماج ، وبين في ذلك المقال بأن "الاندماج شيء مستحيل لأنه لايعبر عن رغبة الأهالي ولا الفرنسيين"(7) والحق ما شهدت به الأعداء.ولقد أعادت "وادي ميزاب"نشر هذا المقال لاتفاقه مع خطها الصحفي.
    وتزيد الحاجة إلى هذا الأسلوب إلحاحا في ظروف يضيق فيها هامش الحرية وتكمم فيها الأفواه، وتطارد فيها أجهزة الرقابة كل من يتجرأ على تجاوز الهامش المسموح به مثلما كان واقعا في عهد الاحتلال بالجزائر ، وبخاصة في فترة ما بين الحربين، وهو ما يملي على الوطنين اختيار سبل التعامل الحكيم.
    ومن ذلك نذكر النقاش الذي احتدم بين بعض الصحف الفرنسية حول الوضع السياسي المتأزم في الجزائر ومسألة النيابة في البرلمان الفرنسي بالخصوص، وفي مقدمة هذه الصحف ( باري ماتينال paris matinal ) التي نشرت مقالا مطولا حول هذه السياسة الظالمة ومعارضة المعمرين لكل إصلاح في الجزائر ، وكان تحت عنوان "السياسة الأهلية" ومتبوعا بعنوان فرعي :" النيابة الأهلية بالبرلمان " يصف الحالة التي عليها أبناء البلاد وسيطرة اليهود والأوروبيين وهم الأقلية، وحرمان الملايين من أي تمثيل في البرلمان سوى تسعة من النواب يمثلون في الحقيقة 14رجلا من المعمرين الذين يسيطرون لوحدهم على ثلاثة ملايير ف. في الجزائر وفق ما جاء في المقال . ولم يكن في وسع صحيفة وادي ميزاب أكثر من نقل هذا المقال الذي يتولى- دون ركوب الأهوال- التعبير عن موقف الصحيفة والوفاء بالغرض (8).
    أما القسم الثاني فهو إعلامي توجيهي يستهدف صناعة الرأي العام بتبني أفكار معينة تندرج ضمن الخط الذي التزمت به الصحيفة ، وتناضل من أجله هيئة تحريرها.
    ورغم أن كلي القسمين يشتركان في مضمون المحاور الثلاثة المذكورة ،إلا أن ذلك لا يعني أنهما متفقان في كيفية تناولهما لهذه المحاور ،إذ يوفر الأول مادة تاريخية خاما ومصدرا مجردا لمعلومات يمكن أن تسهم بقسط كبير في كتابة تاريخ الجزائر المعاصر على غرار المصادر التاريخية الأخرى .وبقدر ما تجتهد هذه الصحيفة أو تلك في التقرب من مصادر الخبر وتوخي الحقيقة وتحري الصدق وتجنب التسفل والتشهير والقذف المغرض واستبعاد الأقلام المرتزقة الرخيصة ،بقدر ما تقترب مادتها الإعلامية من الثقة والمصداقية التي تنشدها الأبحاث التاريخية.
    والحق أن الشيخ أبا اليقظان ظل في جميع كتاباته الصحفية شاهرا سلاحي الصدق والصراحة وكانا السبب المباشر لمنع صحفه الثمانية من الصدور وسقوطها واحدة تلو الأخرى شهيدة الواجب .
    وهاهو ذا يتحدث عن موقفه هذا بقوله:" لا يكبر أمامي عند كتابة موضوع ما أي شخصية لأي رجل بل أتخذ الحق فيها رائدي ،وإصابة كبد الحقيقة والواقع هدفي الأسمى.ومسلكي في ذلك هو مسلك القرآن تقريبا ،الصراحة والإصداع بالحق قدر الإمكان، سيما إذا كان أمامي ما أنا أعالجه من إلحاد أو خيانة أو مروق من الدين أو فسوق أو تهتك في الأعراض ..."(9).
    ومثلما آل الشيخ أبواليقظان على نفسه بهذا الالتزام فإنه كان يوصي الكتاب في صحفه بذلك كشرط لنشر مقالاتهم. ومن ذلك وصيته إليهم " ليتحروا الحكمة والنزاهة والاعتدال وأن يتجنبوا الأشخاص والشخصيات والمناقشات الفارغة، وأن يترفعوا عن مواء القطط وعواء الذئاب وهرير الكلاب، (...) فالتسرع في النقد والتعجل بالحكم مضر ، وكذلك إساءة الظن دون احتمال الوجوه الحسنة لها " .ويؤكد أبو اليقظان بأن" الإنسان قد يخطئ وسبحانه المنزه عن الخطأ والزلل، إلا أن حسن النية ونبل المقصد يشفعان للصحافيين لدى أولي المروءة والإنصاف" (10) .
    ويعرض القسم الثاني ذو الطابع الإعلامي والتوجيهي أفكارا مطعمة بآراء مدروسة تخدم خط الصحيفة ،وملبسة بالتجارب الإنسانية وتراكمات التراث عبر التاريخ . ويمكن جدولة محتوى هذا القسم في ثلاثة محاور أساسية:
    1- عرض السياسة الفرنسية في الجزائر وكشف خططها الاستيطانية .
    2- الاهتمام بمسيرة الحركة الوطنية بألوانها و تياراتها وجوانبها المختلفة.
    3- وصف أحوال البلاد الجزائرية، ومعالجة أبرز القضايا المحلية.
    إن كل محور من هذه المحاور الثلاثة يتضمن مادة تاريخية غزيرة و يتطلب كل واحد منها لوحده تحليلا مستفيضا . وتجنبا للإطالة في هذا المقام ، فإننا سنفرد لها ،بإذن الله،دراسة خاصة.
    وبوسعنا تناول مادة هذا القسم في شطرين يتميز الأول بتوظيف ما توصل إليه الفكر الإنساني من اجتهادات و آراء ونظريات في الفقه والفلسفة والقانون،وقد يقيض الله لهذه المادة الدسمة من أهل الاختصاص من يتولى أمرها بالدراسة والتحليل في مستقبل الأيام.
    أما شطره الثاني فيعنى باستثماره تراكمات تجارب التاريخ في محطاته المختلفة عبر العصور لأغراضه التوجيهية وذلك من خلال:
    - 1 التحليلات الصحفية للأحداث القائمة وربطها بأحداث الماضي قصد المقارنة والاعتبار. فمثلا في افتتاحية الذكرى الأولى لصحيفة وادي ميزاب يغتنم الشيخ أبو اليقظان هذه الفرصة لإعطاء ومضة تاريخية تحيي النفوس وتوقظ الضمائر حين يقول :" لقد أظهرت جريدة وادي ميزاب أمة ماجدة كانت اندثرت رسومها ، وعفت معالمها بين مطاوي التاريخ، وقد كانت لعبت دورها العظيم في شمال إفريقيا (11).
    ومثال ذلك أيضا في مقال في ذات الصحيفة يتعرض إلى انتماء الجزائر إلى الأمة الإسلامية، يوظف فيه الكاتب الكبير عثمان العكاك التاريخ " ليؤكد بأنها (الجزائر) كانت من أكبر الأعضاء عملا في جسد الأمة الإسلامية وليست هي من الأقوام الفطريين الذين لا يزالون يعيشون عيشة القدماء ،بل إن الجزائر تقلبت في أدوار حضارية جديرة بكل اعتبار ؛ أخذت الحضارة عن مصر ومارست (التقنين) عن الإغريق وفحصت حضارة الرومان من البداية إلى النهاية ، وكانت تحمل الرقي في العهد الإسلامي . فخليق بأمة كهذه أن لا تنقاد إلى دافع اليأس ، ولا تخنع لسلطان الفشل ...". ثم يسترسل الكاتب في اقتراح الحلول التي ينبغي للجزائر أن تلتمسها حتى تنهض عن كبوتها ، وتعداد الشروط التي تحقق بها نهضتها(12).
    - 2 التحقيقات الميدانية للمواقع التاريخية واستنطاق أطلالها فعلى خلاف بعض المفتونين من أبناء الجزائر الذين ادعوا غياب أي دليل على وجود الأمة الجزائرية ،كان الشيخ أبو اليقظان يستنطق الأطلال والشواهد القديمة من حضارة الجزائر لدحض دعاوى الذين يهرفون بما لا يعرفون . ومثال ذلك التحقيق الذي نشرته صحيفة الأمة ، والذي كتبه الشيخ أبو اليقظان بقلمه عقب رحلة قام بها إلى مدينة تيارت رفقة بعض أصدقائه بحثا عن التاريخ "فتلونا (يكتب الشيخ أبو اليقظان) آيات العبر والذكرى من سطور تلك الآثار الخالدة خلود الدهر ، واستوحينا منها ما كان للأجداد الأبرار أئمة بني رستم من عظمة وخلود ، وما أقاموه من عدل ، وبسطوه من راحة وأمن ، وشيدوه من حضارة مدنية وعمران ". ثم يسترسل في ذكر المواقع والأطلال ، مستنطقا إياها عن أخبار الأئمة و الأصحاب، لتدلي بشهادتها للتاريخ ، شاعرا تارة وناثرا تارة أخرى . وهكذا يخاطب حصن تاهرت :
    ألست أنت ذائدا عن حمى***تاهرت رغم كل أنف عذول
    يرتد عنها خاسئا حاسرا***كل ظلوم منك حين تصول
    هل لك أن تحكي ماجرى *** فوق أديم نجدهم والسهول

    وبمثل ذلك يستنطق الشيخ أبو اليقظان "عين السلطان" و"جبل سوفجج" كأهم معلمين بقيا شاهدين علىتاريخ تاهرت والحضارة الإسلامية الرستمية في القرن الثاني الهجري(13) . وتحت عنوان "تلك آثارنا تدل علينا " كانت لجريدة الأمة أيضا وقفة أخرى على أطلال سدراتة التي غمرتها الرمال فكانت بذلك آثارها أوفر حظا وخير حفظا(14).

    - 3 التراجم والدراسات التاريخية لقد أولت الصحافة اليقظانية أهمية كبيرة لسيرة الزعماء والعظماء في العالم الإسلامي الذين وقفوا حياتهم في خدمة الأمة ، فرفعت نزلهم وعرفت بأعمالهم وإنجازاتهم،وحثت الأمة على تكريمهم وإجابة دعواتهم واقتفاء آثارهم . ويتضاعف اهتمام صحف أبي اليقظان بهذه الفئة من الأمة عندما تفجع هذه الأخيرة بوفاة أحدهم، فتتكرر الكتابات تلو الكتابات حوله، تعدد مناقبه و أفضاله على الأمة والمجتمع .
    وتختلف هذه الكتابات من حيث الشكل نثرا وشعرا ومن حيث المضمون رثاء وتأبينا ومن حيث الكم حيث يتراوح ذلك من مجرد مقال في صفحة من صفحات الجريدة إلى تخصيص عدد كامل وأزيد مثلما حظي به المجاهد الحاج بكير العنق(15).ولا يخفى على الملاحظ قصد الاقتداء والائتساء في هذه المقالات من هذه النماذج التي ضربت أروع أمثال التضحية والإخلاص .
    وتنطوي صحف أبي اليقظان التي غطت فترة 1926- 1938 على عديد الأعمال والإنجازات التي حفلت بها حياة بعض العظماء والمخلصين ، ومن هؤلاء نذكر بعض أعلام الجزائر أمثال الأمير خالد(16) والشيخ عبدالحميد بن باديس والشيخ الحاج إبراهيم بن يحي (17) والشيخ الحاج يحي بن صالح (18)وغيرهم.
    ومن أهم ما نشرته الصحافة اليقظانية كذلك هي المقالات التي تعالج مواضيع تاريخية بحتة . وتتسم بعض هذه الدراسات بالعمق والطول حيث تعالج الموضوع معالجة علمية منهجية بعد تحليله إلى عناصره الأساسية التي تستهلها عناوين فرعية فتتسلسل في سياق زمني ومنطقي .وغالبا ما تسترسل هذه الأبحاث على شكل حلقات تتتابع في عدة أعداد من الصحيفة.
    ولعل أحسن نموذج في هذا الشأن هي تلك الدراسة التي نشرتها صحيفة وادي ميزاب(19) ، تناولت تاريخ الرستميين وعالج فيها الكاتب عدة عناصر منها تأسيس الإمامة وطبيعة نظامها الإداري ، كما تعرض فيها إلى مقومات الدولة مثل القضاء والاقتصاد والعمران ، إضافة إلى عرض سيرة الأئمة وأخبارهم وغيرها من العناصر المهمة التي تضيء صفحة من صفحات تاريخ الجزائر الناصعة.
    وليس من نافلة القول الإشارة في الأخير إلى أن هذا الاستثمار للتاريخ ، إنما يندرج في إطار السياسة الثقافية والتربوية التي انتهجها العلماء المسلمون الجزائريون منذ أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، وذلك باعتماد عدة وسائل لتبليغ رسالتهم الحضارية إلى الأمة ،ومنها نشر التاريخ الجزائري(20) بأسلوب تربوي هادف وواع لمواجهة أساليب التشويه والمسخ التي انتهجتها المدرسة الاستعمارية منذ بداية الاحتلال.ومن هؤلاء الكتاب نذكر الشيخ مبارك الميلي والشيخ توفيق المدني والشيخ عبد الرحمن الجيلالي والشيخ محمد علي دبوز .
    3 - مدرسة الشيخ أبي اليقظان الفكرية
    لقد شكلت الصحافة اليقظانية قناة هامة لتواصل المهتمين بشؤون الجزائر عامة والحركة الوطنية على وجه الخصوص حتى غدت منبرا داعما للأصوات المعادية للاحتلال ونخص بالذكر منها تيارين رئيسيين هما الحركة الإصلاحية والحركة الراديكالية .
    فبالرغم من أن الشيخ أبا اليقظان كان محسوبا للحركة الإصلاحية الجزائرية حتى قبل الثلاثينيات من القرن العشرين، وتأكد ذلك وتعزز بتعيينه عضوا في إدارة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست سنة1931 (21)،إلا أن خط صحفه يعتبر التيار الوطني الإصلاحي والتيار الوطني الراديكالي وجهين لعملة واحدة، متكاملين في برامجهما ، ويشتركان في معاداتهما للوجود الاستيطاني .
    ويجدر القول بأن الشيخ أبا اليقظان لا يراعي كثيرا بريق الأسماء ومظاهرها بقدر ما يهتم بالمسميات ومضمونها ، فالقاسم المشترك بين كل الجزائريين المخلصين هي الوطنية الحقة التي لا يراها في تعديل القوام وتحسين الهندام " إنما الوطنية (عنده) شرارة نارية يقذفها الله في النفس فيلتهب بها الدماغ وترسل أشعة نورها إلى القلب فتحرك حرارتها الأعضاء ،وتنير الأشعة الساطعة أمامها سبيل العمل .إنما الوطنية الحقة أن يسعى الإنسان قدر جهده لجلب الخير العميم لوطنه ودفع الضرر عنه، بمقتضى العقل والحكمة والشرع والقانون . إن الوطنية الحقة أن يفنى الإنسان في مصلحة العموم لا مصلحة الذات ، ويضحي بهذه لأجل تلك . إن الوطنية الحقة أن يشقى الإنسان ليسعد وطنه ،ويذل ليعز ، ويفقر ليستغني ويموت ليحيى " (22).
    من هنا نجد الشيخ أبا اليقظان في صحفه يرافع من أجل قضايا حزب الشعب الجزائري ذي النزعة الاستقلالية الصريحة تماما مثلما يدافع عن قضايا جمعية العلماء الإصلاحية، حتى أن بعض الكتاب لاحظ تحولا في جريدة الأمة " من جريدة ذات اتجاه مناصر لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى جريدة تدافع عن برنامج حزب الشعب(23) "
    وقد أرجع ذلك إلى الموقف الذي وقفه زعماء حركة النجم - التي ستؤول فيما بعد إلى حزب الشعب الجزائري - من المؤتمر الإسلامي الذي انعقد بالجزائر عام 1936 ، ومن مطالب وفده إلى الحكومة الفرنسية حيث كانت هذه الحركة تعتبر هذه المطالب إدماجا للجزائر في حظيرة الشعب الفرنسي في حين كانت تطالب هي باستقلال البلاد. وقد حذر الشيخ أبو اليقظان بدوره وفد المؤتمر عند ذهابه إلى باريس في مقال له من أن ينزلقوا في هوة الاندماج(24) . بالإضافة إلى موقف صحيفته " الأمة" من حجز السلطات الفرنسية لجريدة "الشعب"في عددها الأول وهي لسان حال حزب الشعب الجزائري (25).
    ولعل الأصوب في هذا الشأن هو ما يتميز به الشيخ أبو اليقظان من وضوح الرؤية لحقيقة النضال الذي يتبلور من خلال ثبات المبدأ وسمو الغاية ولا بأس بعد ذلك من أن تختلف المناهج.
    ومجمل القول فقد كان مفهوم النضال الصحفي لدى الشيخ أبي اليقظان شاملا لكل مجالات حياة الإنسان الجزائري السياسية منها والتربوية والاجتماعية والاقتصادية ،فهي عنده بمثابة جبهات المقاومة وما تتطلبه من توحيد كل الجهود وتنسيقها للظفر بأسمى الغايات .
    إضافة إلى أنه كان يراهن من خلال نشاطه الصحفي على نشر فضائل العلم والعمل والاتحاد والاعتماد على النفس والوطنية والإخلاص للحق والصدق والثبات إلخ ...(26) .
    وبالمختصر المفيد فإن الشيخ أبا اليقظان ينتسب إلى مدرسة التوحيد الفكرية :
    توحيد لله ، فلا دجل ولا بدع ولا اختلاق .
    وتوحيد للأمة، فلا ملل ولا شيع ولا افتراق.
    خاتمة
    تظل المادة التاريخية التي تبطنها الصحافة الوطنية الجزائرية – التي كانت تصدر أثناء الاحتلال الفرنسي ، ومنها على الخصوص صحافة الشيخ أبي اليقظان رحمه الله – هي المنهل الذي سيسهم بقسط وافر في قراءة تاريخ الجزائر قراءة جديدة ، وكتابته بأقلام جزائرية أصيلة ، وذلك بالنظر إلى تكاثر الكتابات والتآليف التي خلفتها المدرسة الاستعمارية في هذا الشأن ،وبالنظر إلى شح المصادر الوطنية ،والصعوبات التي تقف دون استثمارها ، بحكم تشتتها وتناثرها في عدة نقاط داخل الجزائر وخارجها من جهة ، وبحكم عدم تصنيفها ومعالجتها معالجة توثيقية من جهة ثانية .
    ولا شك أن ذلك سيساعد في حل العديد من الإشكاليات المطروحة على بساط البحث في الجزائر ، مثل إشكالية المصطلحات والمفاهيم وإشكالية المصادر , غير هما مما لا يزال يقف عائقا أمام تأسيس مدرسة تاريخية وطنية أصيلة .
    وسيبقى الشيخ أبو اليقظان بحق عميد الصحافة الوطنية باستماتته وإخلاصه في نضاله الصحفي وبأصالة روحه الإسلامية الطاهرة ، وبإشعاع فكره الوحدوي البناء.
     
  2. خالد الإدريسي

    خالد الإدريسي عضو متميز

    [​IMG]
     
  3. أمة الرحمن الجزائرية

    أمة الرحمن الجزائرية طاقم الإدارة مشرف

    وفيك بارك الرحمن
     
  4. مشتاقة للقاء ربي

    مشتاقة للقاء ربي شموخي في زمان الانكسار عضو وفيّ

    aislamroses.com_zeenah_images_1137114121_3.gif
     
  5. لارا

    لارا قلب الفراشة عضو وفيّ

    ​بارك الله فيك اختي في الله دنت مميزة
     
  6. الباحث العربي

    الباحث العربي عضو منتسب

مشاركة هذه الصفحة