بلاغة الاستفهام في الحديث النبوي الشريف

الموضوع في 'لسان العرب' بواسطة سفير اللغة و الأدب, بتاريخ ‏16 مايو 2011.

  1. بلاغة الاستفهام في الحديث النبوي الشريف
    تطبيقًا على مسند الإمام الليث بن سعد
    د. عبدالعزيز فتح الله عبدالباري
    عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
    وعضو هيئة التدريس بجامعة عمر المختار

    يساوي ابن فارس بين الاستفهام والاستخبار، فالاستخبار عنده: "طلب خبر ما ليس عند المستخْبِر، وهو الاستفهام"[1]، غير أنَّه أرْدَف مبيِّنًا أنَّ هناك مَن يُفرِّق بينهما، فقال: "وذكَر ناسٌ أنَّ بين الاستخبار والاستفهام أدنى فرقٍ، قالوا: وذلك أنَّ أولى الحالين الاستخبار؛ لأنك تستخبر فَتُجاب بشيءٍ، فرُبَّما فَهِمْته، ورُبمَّا لَم تَفهمه، فإذا سألت ثانيةً، فأنت مُستفهمٌ، تقول: أفهمني ما قلته لي، قالوا: والدليل على ذلك أنَّ الباري - جلَّ ثناؤه - يوصَف بالخُبْر ولا يوصَف بالفَهْم"[2].

    وواضح أنَّ مَن فرَّق بينهما يَقصُر معنى الاستفهام على طلب عِلْم ما لا يعلمه المستفهم عن شيءٍ في كلامٍ مُثار، وأنَّ الاستخبار طلبُ العلم ابتداءً، "فاستخبَر: سأله عن الخبرِ وطلَب أن يخبرَه...، واستخبَر: إذا سأل عن الأخبار ليعرفَها"[3].

    هذا ما فَهِمه السيوطي - رحمه الله - أيضًا من كلام ابن فارس، إذ قال: "الاستفهام هو: طلب الفَهم، وهو بمعنى الاستخبار، وقيل: الاستخبار ما سبق أولاً، ولَم يُفْهم حَقَّ الفَهم، فإذا سألت عنه ثانيًا، كان استفهامًا"[4].

    ويبدو للباحث أنَّ الاستفهام أعمُّ من الاستخبار، فإذا كان السؤال عن شيءٍ ابتداءً، سَمَّوه استخبارًا، وإذا لَم يفهم السامع ما أُجِيب به، فسأل ثانيةً، سمَّوا سؤالَه الثاني استفهامًا، لكنَّه في الحالين قد استفَهم عمَّا لا يعلم.

    على أنَّ هناك فارقًا لفظيًّا بينهما، وهو أنَّ الاستفهام يكون بأدوات مخصوصة، هي: الهمزة، وهل، وما، ومَن، وكم، وكيف، وأين، وأنَّى، ومتى، وأيَّان، وأي، فإذا طلب عِلْمَ ما لا يعلم بهذه الأدوات فهو استفهام، وإذا طلَب عِلْمَ ما لا يعلم بغيرها من الصِّيَغ كصيغة الأمر - كما في قولك: "أخْبِرْني" أو "اذْكُر ما عندك من أخبار"، أو"أسْمِعْني"، أو "أعْلِمني الأخبار" - فهو استخبارٌ.

    الاستفهام وطلب الفَهم:
    على أننا ينبغي أنْ نُشير إلى أنَّ كُلَّ استفهام ليس بالضرورة طلبًا للفَهم؛ "فليس كلُّ استفهام طلبًا للفَهم، وليس كلُّ طلبٍ للفَهم استفهامًا"[5].

    فاستفهام الله - عز وجل - عيسى ابنَ مرْيمَ - عليه السلام - في قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 116].

    ليس استفهامًا على حقيقته، بمعنى أنه يطلب به عِلْم ما ليس معلومًا للسائل، فقد يوجِّه المسْتَفْهِمُ الاستفهامَ، وعنده عِلْمٌ به؛ لقصْدٍ فَنِّيٍّ يبتغيه السائل، بل أزْعُم أنَّ مدار الاستفهام البلاغي[6] على أنَّ السائل لَدَيه علْمٌ بما يستفهم عنه، ومَن يجهل هذه الحقيقة، فقد ينزلق إلى مَزالقَ خطيرة، كتلك الباحثة التي عرَّفت الاستفهام بأنه: "ممن لا يَعلم لِمَن يَعلم، أو يتوهم من العلم ليعلم، ثم مثَّلتْ بقوله - تعالى -: ﴿ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ﴾ [المائدة: 116][7]!

    وسواء كان قصْدُ الباحثة أنَّ تمثِّل لصدور الاستفهام ممن لا يَعلم لِمَن يعلم، أو ممن يتوهَّم من العلم ليعلم، فإنَّ تمثيلها خاطئ، فـ بقولها"يتوهم"؛ أي: يظنُّ ظنًّا[8]، والأمران منافيان لما يجب في حقِّ الله - عز وجل - أعني: عدم العلم أو التوهُّم.

    ويبدو أن الباحثة أرادتْ أن تجد نظيرًا لاستشهاد الإمام عبدالقاهر الجرجاني بقوله - تعالى -:
    ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 62] في سياق تفريقه بين تقديم الاسم على الفعل أو العكس في الاستفهام، حين قال: "فإنَّ موضع الكلام على أنَّك إذا قلت: "أفعلتَ؟"، فبدأتَ بالفعل، كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرَضُك من استفهامك أنْ تعلمَ وجودَه، وإذا قلت: "أأنتَ فعلتَ؟"، فبدأتَ بالاسم، كان الشكُّ في الفاعل، مَن هو؟ وكان التردُّد فيه"[9].

    ولَم تفطن الباحثة إلى إلحاح عبدالقاهر نفسه على توجيه خِطابه إلى مخاطب - أي: إلى بشَرٍ - في قوله: "فإذا قلتَ"، و"فإنك إذا قلتَ"؛ ولذلك لَم يَسُق الآية التي استشهدتْ بها الباحثة على أن الاستفهام يكون ممن لا يَعلم لِمَن يعلم، أو يتوهَّم من العلم ليعلم، بل ساقَ قول قوم إبراهيم - عليه السلام - له الذي حكَاه الرحمنُ عنهم.

    كما أنها لَم تفطن إلى الفارق الجوهري في الأسلوبَيْن، وإن كانا متناظرين في الصياغة، ونَعني به نوعية السائل والمسؤول ومكانته، والموقف والسياق[10]، فهل يعقل أن يسأل العليم الخبير - عزَّ وجل - عيسى - عليه السلام - عمَّا سأله عنه طلبًا للعلْم، أو لأنه يظنُّ أن عيسى رُبَّما قال ذلك، فأراد أن يتيقَّن؟! ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الزمر: 67].

    ولو أنَّ الباحثة قرأتِ الآيات كاملة، لعَلِمت أنَّ في جواب عيسى - عليه السلام - ما يَدْحَض قولها، فإنَّ عيسى - عليه السلام - كان فَطِنًا - وهي صفة الأنبياء - ففَهِم السؤال على الوجْه الذي ينبغي أن يُفْهَم به، وهو أنَّه واردٌ على سبيل استنطاقه بما يعلمه الله ويَعْلمه هو، من ادِّعاء النصارى هذا الكذبَ على عيسى تكذيبًا لهم وتبكيتًا[11]، ورَدًّا على افترائهم هذا في حقِّ الله، وفي حقِّ عيسى - عليه السلام - تَبْرِئَةً له، وإقامة للحُجَّة عليهم؛ ولذا أجَاب مُسْندًا عِلْمَ ما في الضمير والعلم المطْلق لله، نافيًا ذلك عن نفسه؛ تنبيهًا للسامعين أنَّ سؤال ربِّه إيَّاه ليس طلبَ علْمٍ، بل هو استنطاق له بما يَعلمه الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116].

    فالاستفهام إذًا "للتقرير بما يعرفه عيسى - عليه السلام"[12]، ويستحيل على الله - عز وجل - أن يسألَ عمَّا لا يعلم؛ لأنَّه عالِم بكلِّ شيءٍ، تَعالَى الله عمَّا يقولون عُلوًّا كبيرًا، "ولا بِدْع في صدور الاستفهام ممن يعلم المستفْهَمَ عنه؛ لأنَّ طلبَ الفَهم؛ إمَّا طلبُ فَهْم المستفهم، أو وقوع فَهْمٍ لِمَن لَم يفهم كائنًا مَن كان"[13].

    ثراء أسلوب الاستفهام:
    تلحظ أننا عبَّرنا عن معانٍ أثارها هذا الاستفهام في سياقه، وليس معنى واحدًا، هي: الاستنطاق والتكذيب والتقرير، وتبكيت النصارى وتوبيخهم؛ إذ يسمعون عيسى نفسه يكذِّبهم، ويُنكر قولَهم.

    قد يبدو أننا نَخلط، غير أنَّ الأمر - فيما أزعم - غيرُ ذلك، فأسلوب الاستفهام أسلوب غَنِيٌّ ثَرِيٌّ، وإذا أردنا أن نوضِّح كيف دلَّ هذا الاستفهام على هذه المعاني، فإن الاستنطاق والتقرير واضحان؛ أمَّا التكذيب، فلأنَّ عيسى - عليه السلام - كذَّب قوْمه فيما ادَّعوه عليه، وأقرَّ أنه ما قال لهم إلاَّ ما أمَرَه الله: أنْ يعبدوا الله وحْده، وإذا كان لَم يقلْ لهم ما ادَّعوه، ثم تعمَّدوا الكذبَ عليه، فهم أهلٌ للتقريع والتبكيت والتوبيخ؛ إذ كيف يأتون هذا الجُرْمَ الشنيع وهم أهل كتابٍ؟!

    وثراء أسلوب الاستفهام أحسبُه أمرًا مُقرّرًا، فعلى الرغم من أنَّك حين تُطالع كُتب البلاغة العربية تجدها تضع غالبًا معنًى واحدًا للاستفهام - وتكفينا نظرةٌ على "الإتقان"؛ للسيوطي، فقد أوْرَد اثنين وثلاثين معنًى للاستفهام[14].

    وعلى الرغم من هذا، فإننا نرى البلاغيين يختلفون حول دَلالة أسلوب الاستفهام، فالسيوطي يجعل الاستفهام في قوله - تعالى -: ﴿ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، يَجعله للاستبطاء[15]، بينما يجعله الزمخشري "لطلبِ الصبر وتمنِّيه، واستطالة زمان الشِّدَّة"[16]، غير أنَّه دُعاءٌ عند القاضي عبدالجبَّار[17].

    وما هذا الاختلاف في الدَّلالة الفنيَّة للاستفهام إلاَّ ثمرة لثرائه الفني؛ فقد تجد للاستفهام الواحد أكثرَ من دَلالة بلاغية يفطن بعض إلى بعضها، ويفطن آخرون إلى سواها، بل قد تجتمع معانٍ كثيرة لاستفهام واحدٍ؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ [البقرة: 258]، هي التعجيب[18]، والتقرير والتنبيه[19]، والتحذير[20]، والدعوة إلى الاعتبار، أعني: دعوة المشركين إلى الاعتبار بِمَن سَبَق، بتدبُّر حال كلٍّ من إبراهيم - عليه السلام - والنمرود، كأُنموذجين: أنموذج التوحيد، وأنموذج الكفر، ولا سيَّما إذا وضعْنا في اعتبارنا أنَّ الآية خِطابٌ للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - المرسَل إلى مشركي مكة؛ فهو رمْزُ التوحيد والداعي إليه، كإبراهيم - عليه السلام - وهم رمْز الشِّرك وفريقه كالنمرود.

    وهذا ما عناه الباحث بثراء أسلوب الاستفهام، بل على الرغم من تَعدُّد معانيه أو دَلالاته الفنيَّة، فإنَّه كذلك مُشعر ببقاء معناه الحقيقي، وهذا ما فَطِن إليه السيوطي في قوله: "ويظهر بالتأمُّل بقاءُ معنى الاستفهام مع كلِّ أمرٍ من الأمور المذكورة"[21]؛ ولذا كان ابن فارس فَطِنًا بليغًا حين كان يذكر مع كلِّ معنًى من معاني الاستفهام أنَّه في الأصل استخبارٌ، وقد يكون بمعنى كذا، كقوله: "ويكون استخبارًا، والمعنى تقريرٌ، نحو قوله - جل ثناؤه -: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 172][22].

    كيف نقارب أسلوب الاستفهام؟
    هذا الثراء الدَّلالي للاستفهام مَرَدُّه إلى أنَّ هذا الأسلوب - والأساليب الإنشائية بعامَّة - يتوقَّف فَهْم دَلالتها على عدَّة اعتبارات تدخل جميعها تحت مصطلح السياق، أعني: السياق اللغوي، أو المقالي، أو اللفظي للأسلوب، من حيث البناء اللغوي بمستوياته الصوتيَّة والصرفيَّة والتركيبيَّة، ولا سيَّما "طريقة نُطق الجُمَل، وظواهر التطريز الصوتي... المصاحبة لهذا النُّطق، ومنها النَّبْر، والتنغيم، والفواصل الصوتيَّة"[23].

    وكذلك السياق المقامي، ولا سيَّما ما يُمكن أن نُسمِّيه: "مكانة المُرْسِل أو صاحب النص، ومكانة المتلقي، أو من يُوَجَّه إليهم النصُّ أو الكلام، ومكانة النصنفسه، وكذلك الظروف المحيطة بأسلوب الاستفهام، والتي تتصل بالأسلوب، وتُساعد على فَهْمه، ويُمكن إجمال ما سَبَق في:

    - معرفة النَّظم أو الصياغة التي صِيغَ بها أسلوب الاستفهام.

    - الإدراك الواعي للسياق الكُلِّى للاستفهام: سياق الحديث وعلاقة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمسؤول، ومكانة كُلٍّ، وطريقة نُطقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - الاستفهامَ، والظروف والملابسات التي ألْقَى فيها استفهامه أو سؤاله، وهذا يعني أننا سنحاول استنطاق الحديث، محاولين مُحاكاته صوتيًّا، كما نطَق به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما أمْكَننا ذلك.

    - معرفة مكانة النص؛ حيث هو نص مقدس بعد القرآن الكريم؛ إذ هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي[24].

    على أننا هنا معنيُّون بمقاربة مدى شيوع أسلوب الاستفهام في كلامه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو في نصوص الحديث الشريف بمسند الإمام الليث بن سعد[25]، ومعرفة كيف جاء؟ وكيف وُظِّف الاستفهام لتَأْدِية ما أُريدَ التعبير عنه من معانٍ ودَلالات؟ وقد قام الباحث بإحصاء عددِ مرَّات تواتُر أسلوب الاستفهام في "المسند"، فتبيَّن أنَّ أسلوب الاستفهام يمثِّل السِّمة الأسلوبية الأبرز بعد أسلوب الأمر؛ حيث تواتَر في "المسند" مائةً وتسعًا وثمانين مرة (189)، بنسبة مئويَّة قدْرها (29,5%)[26]، وذلك ما يوضِّحه الجدول التالي:


    أدوات الاستفهام
    الجملة الفعلية
    الجملة الاسميَّة
    المجموع
    النسبة المئوية
    الفعل الماضي
    الفعل المضارع
    الهمزة
    14
    30
    15
    59
    هل
    11
    7
    11
    29
    ما
    12
    8
    16
    36
    من
    4
    4
    20
    28
    كيف
    5

    4
    9
    أين

    2
    2
    4
    أي

    1
    6
    7
    أنَّى


    1
    1
    أيَّان
    -
    -
    -
    -
    متى
    -
    -
    -
    -
    كم
    -
    -
    -
    -
    الاستفهام المحذوف أداته
    -
    -
    -
    16
    المجموع
    46
    52
    75
    189
    29,5%

    ومن قراءة الجدول السابق يتَّضِح لنا ما يلي من خصائص أسلوبية عامة لأسلوب الاستفهام في الحديث الشريف:
    1- أنَّ أدوات الاستفهام دخلَت على الجملة الفعلية بفعْلها الماضي والمضارع، إلاَّ أن دخولها على المضارع كان أكثر من دخولها على الماضي؛ حيث دخلَت على المضارع في اثنين وخمسين موضعًا، وعلى الماضي في ستة وأربعين موضعًا، ولعلَّ ذلك راجعٌ إلى كون الحديث في أصْله حدَثًا شفاهِيًّا يتعلَّق بلحظة الكلام؛ أي: بالزمن الحالي لحظة وقوع الأحداث، إلاَّ ما تعلَّق من استفهام بأحداث ماضية، فيستفهم عنه بالجملة الفعلية الماضية، وقد يدلُّ هذا على كثرة خروج الاستفهام إلى معانٍ بلاغية.

    2- بمقارنة بين الجملتين الاستفهاميَّتين: الفعلية والاسمية، وَجَد الباحث أنَّ أدوات الاستفهام دخلَت على الفعل أكثرَ مما دخلَت على الاسم، فقد دخلَت على الفعل في ثمانٍ وتسعين مرَّة، وعلى الاسم خمسًا وسبعين مرة، "وهذه الظاهرة تتَّفق مع ما ذكَره النحاة من أنَّ حروف الاستفهام تدخل على الفعل أكثرَ من دخولها على الاسم"[27].

    3- أنَّ أكثر أدوات الاستفهام تواترًا الهمزة؛ حيث بلغَت تسعًا وخمسين مرة، ثم "ما" وبلغَت ستًّا وثلاثين مرة، ثم "هل" وبلغَت تسعًا وعشرين مرَّة.

    4- وذلك يتَّفق وطبيعة الهمزة؛ إذ هي "الأصل فيه؛ لكونها حرْفًا، بخلاف ما عدا هذه من أدواته، فلم تخرجْ عن موضوعها، فلم تستعمل لنفي، ولا بمعنى "قد"، بخلاف "هل"، ومِن ثَمَّ؛ أي: من أجْل أصالتها فيه اخْتُصَّت بالحذف؛ أي: بجواز حذفها...، وسائر الأدوات لا تحذف، ودخولها على النفي، كما تدخل على الإثبات، نحو ألَم يقمْ زيد؟ وغيرها لا يدخل إلاَّ على الإثبات خاصة، ودخولها على واو العطف، وفائه، وثُمَّ؛ تنبيهًا على أصالتها، بخلاف غيرها من الأدوات، فلا يتقدم العاطف بل يتأخَّر"[28]، وذلك أنَّ الهمزة - كما قال ابن الحاجب -: "أعم تصرُّفًا في الاستفهام"[29].

    5- دخلَت هل على الجملة الاسمية في أحد عشر موضعًا، منها: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فهل أنتم صادقي عنه؟))، مُكرَّرًا ثلاث مرات في حديثين، هما: الحديث رقْم (839)، و(98) في حوارٍ مع اليهود، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عدَل بـ"هل" عن الفعل، وأدْخَلَها على الجملة الاسمية من مبتدأ وخبر مفرد؛ لأنه أرادَ مزيدَ عناية واهتمام بالمسؤول عنه؛ أي: أراد التنبيه على ضرورة أن يُقرَّ اليهود بصِدْقه فيما يسألهم عنه؛ لأن تعبيره المختار: ((فهل أنتم صادقي؟))، أدلُّ على طلب الصِّدق من قوله: "فهل تصدقون؟"، أو "فهل أنتم تصدقون؟"؛ "لأن أنتم فاعل فعْل محذوفٍ، وإنَّما كان الأول أدلَّ؛ لأن إبراز ما سيتجدَّد في معرض الثابت المستقر أدلُّ على كمال العناية بحصوله من إبقائه على أصْله كما في "هل تصدقون؟"، وفي "هل أنتم تصدقون؟"؛ لأن "هل" في "هل تصدقون؟" وفي "هل أنتم تصدقون؟" على أصْلها؛ لكونها داخلةً على الفعل تحقيقًا في الأوَّل، وتقديرًا في الثاني"[30][31]، ولعلَّه على معنى ما قدَّمناه؛ أي: لبيان العناية والاهتمام بالمطلوب، وهو كُنْه مَن معه، فهو سؤال على معنى أخْبِرْني عن صفة عنمعك. الذي يفسِّره المذكور في الجملة، ودخلَت على الجملة الاسمية حكايةً على لسان خازن السماء؛ إذ سأل جبريل - عليه السلام -: "هل معك أحد؟"

    6- واستُعْمِلت "إلاَّ" مع "هل" في موضع واحدٍ هو: ((وهل مِن نبيٍّ إلاَّ وقد رعاها؟))[32]، فأفادت النفي، ولدخولها على "إلا" صار الكلام تقريرًا وإثباتًا، فنفي النفي إثباتٌ، وذلك كقوله - تعالى -: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].

    7- أنَّ هناك أدوات استفهام لَم تُستعمَل مُطلقًا، وأخرى استُعْمِلت بقلة، فالتي لَم تُستعمل: "أيَّان، ومتى، وكم"، أمَّا الأدوات التي استُعْمِلت بقلة، فهي: "كيف"، واستُعْمِلت تسع مرَّات، و"أي"واستُعْمِلت في موضعٍ واحد في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فأنَّى هو؟))[33].

    ويلاحظ أنَّ هذا الاستفهام حمَل دَلالة الغَرابة والاندهاش، فالرجل يُنكر ولده بلا سببٍ معقول، بل لتغيُّر لون بشَرته عنه، فاستدرَجه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أنَّ ذلك قد يكون راجعًا إلى أمْرٍ وراثي، لكنَّه استَفهم بـ"أنَّى"، وكان يُمكنه أن يستعمل "كيف"، أو "مِن أين"، وهما مَعنيان تأتى "أنَّى" لهما، لكن للغَرابة والدهشة - كما يبدو لي - التي سبقَت الاستفهام استعملَ "أَنَّى"، ويبدو أنها تُستعمل غالبًا في الموقف العجيب الغريب المدهش، يؤيِّد ذلك الاستعمال القرآني؛ كما في قوله - تعالى - على لسان زكريا - عليه السلام - قال: ﴿ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾ [آل عمران: 37]، وقوله - عليه السلام - أيضًا: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40]، وعلى لسان مريم - عليها السلام -: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 20].

    8- باستقراء جميع مواطن الاستفهام، تبيَّن أنَّ الاستفهام كان جميعه إنشاءً منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - تعقيبًا على موقف، أو استفسارًا أو إجابةً على سؤال، أو ابتداءَ إثارةٍ وجذْبٍ للانتباه...، إلاَّ في بعض المواطن جاء بلسان الحكاية؛ إمَّا عندالله - جل جلاله - في تسعة مواطن[34]، وإمَّا عن الملائكة في ستة عشر موضعًا[35]، وإمَّا على لسان موسى - عليه السلام[36]، أو سليمان - عليه السلام[37]، وإمَّا على لسان عبدٍ من عباد الله[38]، أو عباده المؤمنين في الآخرة[39]، أو حكاية على لسان أحد الصالحين في الأُمم السابقة، وهو "جريج"[40]، أو أحد غير معروف[41]، أو على لسان الحيوان كالذئب[42]، أو على لسان المسيح الدجال[43]، أو على لسان الشيطان الرجيم[44]، وكلها ستة وثلاثون موضعًا.

    9- أنَّ الاستفهام قد يُبنى عليه الحديث كلُّه، فيُشَكِّل السِّمة الأسلوبية الأبرز، ورُبَّما الوحيدة في النص الحديثي، وذلك كما في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إني سائلكم عن شيءٍ، فهل أنتم صادقي عنه؟))[45]، فقد شكَّل الاستفهام والجواب عليه من اليهود الأداةَ الرئيسة للترابُط في النصِّ، بل شكَّل الاستفهام البناء الرئيس للنصِّ، فقد قام بناء النص الحديثي فيه على سبعة استفهامات.

    وقد آثَره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مثل هذا الحوار مع اليهود؛ استدراجًا لهم وإفحامًا، فكان يمكن أن يخبرَهم لأوَّل وهْلة عمَّا فعلوا من دَسِّهم السُّمَّفي الشاة، لكنَّه طلَب إليهم الصِّدق كلَّ مرة، بصيغة هي أدَلُّ على طلب الصِّدق من قوله مثلاً: "فهل تصدقون؟" - كما بينَّا آنفًا - لينبِّههم على ضرورة أن يَصْدُقوا في إجاباتهم، فسألهم عن أبيهم، فكذبوا، فأعْلمهم، فأقرُّوا، فسألهم عن أهل النار، فكذبوا، فأعْلمهم، ثم لَمَّا سألهم عمَّا أراد من وراء استفهاماته السابقة: هل جعلتُم في هذه الشاة سُمًّا؟ لَم يجدوا مَفَرًّا من الصدق؛ لأنهم كذَبوا مرَّتين سابقًا، فيُخبرهم بالصدق، فيُقِرُّون له.

    وكان يُمكنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يبدأَهم بالسؤال الأخير، وهو ما أراد بما سَبَق من استفهامات - لكنَّه عدَل إلى هذا الأسلوب - أن يسأل؛ فيجيبوا فيكذِبوا، فيُكَذِّبهم، ويُعلِمهم الحقَّ، فيُقِرُّوا له استدراجًا، وإقامةً للحجة، وتسجيلاً عليهم اعترافَهم، ولو سألهم عمَّا أرادوا ابتداءً، فحتمًا كانوا سيراوِغون، ولا يُقِرُّون، والمراد هو أن يُقِرُّوا بهذا الفعل الدنيء الذي فعلُوه، وإذا كان الأمرُ على ما وصفناه، ففي هذه الاستفهامات تبكيتٌ وتقريع، وتوبيخٌ وتحقير لهم.

    10- وردتْ صيغة: ((كيف قلت؟)) في خمسة أحاديث[46]، وقد اتَّضح باستقراء مَواضعها أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يؤثِر استعمالَها إذا أراد استدراكَ شيءٍ على ما أجاب به مَن سأله، فإذا أراد أن يُضيف شيئًا أو يؤكِّد على شيءٍ، يسأل السائل: ((كيف قلت؟))، فيُعيد السائل عليه السؤالَ، فيجيب بما أجاب مِنْ قبلُ به، ويَزيد عليه ما أراد أن يستدرِكَه، كاستدراك "الدين" بأنَّه لا يغفره الجهاد والشهادة في سبيل الله، بعدما أجاب من قبل بأنَّ الجهاد والشهادة يَغفران خطايا المسلم، فلمَّا أراد أن يستدرِكَ، استدرَكَ بقوله: ((كيف قلت؟))[47].

    وهذا الأسلوب الاستدراكي أسلوب تربوي حكيمٌ، يهدِف به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى إثارة السائل وتنبيهه إلى أنَّ فيما أجابَ عليه - مِن قبلُ - ما يريد أن يؤكِّد عليه، أو يُضيفه إلى ما أجاب به مِن قبل.

    وفيه مِن بلاغة النبي الدَّلالة على تواضُعه، ورفعةالحرَج في العلم علىالعالم؛ إذ يجوز العودة عن رأْيه إذا رأى ما هو صواب وأوْلَى بالاتباع، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أستاذ المتواضعين، لا يجد حرَجًا من أنْ يقول: ((فإنَّ جبريل قال لي ذلك))؛ إذ الأمر أمْرُ تشريعٍ ودين، وفيه أيضًا وجوب قَبول قول مَن هو أعلم، ولا سيَّما إن كان مأمونًا موثوقًا، وقد يكون السؤال مقصودًا منويًّا في الضمير، قبل أن يُجيب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وإنما يَستبقي ما يريد أن يؤكِّد عليه في الإجابة؛ ليسأل السائل ثانية، فيُعيد سؤاله تأكيدًا واعتناءً وتنبيهًا على ما سيُضيف.

    وقد يسأل، فلا يُجيب، بل يَصْمت ساعة أو بعض الوقت، ثم يسأل السائل: ((كيف قلت؟))؛ استنطاقًا له بإعادته السؤالَ مرَّة أخرى، وإثارةً له وللحاضرين من الصحابة؛ كي يزداد الجميع انتباهًا.

    ويبدو لي أنه أسلوب مثالي؛ إذ يحقِّق الفائدة العلمية مَقرونة بالإشارة والتنبيه والتشويق[48]، وهو في النهاية أسلوب تربوي يحقِّق التفاعل والحيوية بين المعلم وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا وتلاميذه، وهم الصحابة - رَضِي الله عنهم.


     
  2. المقاصد الأسلوبية للاستفهام النبوي:
    وقد تنوَّعت المقاصد الأسلوبية التي خرَج إليها الاستفهام النبوي، وقد أشرْنا إلى بعضها آنفًا، كمعنى الاستدراك، وسنزيده توضيحًا بعد، ونتناول هنا أهمَّ هذه المقاصد الأسلوبيَّة لهذا الأسلوب النبوي:

    أولاً: التقرير:
    وهو طلب الإقرار بمضمون الكلام، حتى لكانمضمون الكلام المطلوب تقريره أصبَح عند المخاطب مستقرًّا ثابتًا، "فتقريرُ الإنسان بالشيء جَعْلُه في قراره، وقرَّرتُ عنده الخبرَ؛ حتى استقرَّ"[49]، ويُقال: "أقررتُ الكلام لفلان إقرارًا؛ أي: بيَّنتُه حتى عَرَفه"[50]، وأصل المادة دائر على دَلالة الاستقرار؛ تقول: "قرَّره وأقرَّه في مكانه، فاستقرَّ"[51]، و"القَرارة، والقَرار: ما قَرَّ فيه الماء"[52].

    ومنه أُخِذ معنى التقرير، فهو طلب السائل من المسؤول أن يقرَّ بثبوت أو نفي مضمون الاستفهام، ويعترف به اعترافًا مستقرًّا يُشبه استقرار الماء في الأرض، بحيث لا يتأتَّى للسامع أو المسؤول بعدُ إنكارٌ، وإقرار المسؤول: "إذعان للحقِّ واعترافٌ به، أقرَّ بالحقِّ؛ أي: اعترفَ به، وقد قرَّره عليه، وقرَّره بالحقِّ غيرُه، حتى أقرَّ"[53]؛ ولذا عرَّفه أهل البلاغة بأنَّه: "استفهام غايتُه حمْلُ السامع على الإقرار"[54]، والاعتراف بأمرٍ قد استقرَّ عنده ثبوتُه أو نفْيُه.

    وقد توخَّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الدَّلالة في بعض استفهاماته؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبِكَ جنون؟)) قال: لا، قال: ((فهل أُحْصِنت؟))، قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اذهبوا به، فارْجموه))[55].

    وقد يُفهم السؤال - من دون ربْطه بسياقه - على أنَّه استفهامٌ حقيقي، غير أنَّ فَهْمَ الاستفهام في إطار محيط النصِّ أو سياقه، يدلُّ على أنه يتجاوز دَلالته الحقيقيَّة، وهى مجرَّد طلب العلم، فالمسؤول رجل أتَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فناداه، فأخْبَرَه أنه زنَى! فأعرَض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دَرْءًا لإقامة الحدِّ عليه، بَيْدَ أنَّ الرجل ثنَّى ذلك عليه أربع مرات، فلمَّا فعَل ذلك، سأله هذَيْن السؤالين؛ قاصدًا التثبُّت من عقْل الرجل وحالته - من حيث الإحصان والعزوبة - بأنْ يُقِرَّ على نفسه بأنَّه عاقل مُحصنٌ؛ لأنَّ ما يقرُّ به الرجل سيترتَّب عليه تطبيق حدٍّ من حدود الله عليه، وهو الرَّجْم.

    ويبدو لي أنه يحمل إلى ذلك دَلالة التعجُّب؛ أي: التعجب من فعْلِ الرجل، ولعلَّ في تقديم السؤال الأوَّل على الثاني إظهارَ رغبة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دَرْء الحدِّ، فلو أقرَّ الرجل بجنونه، لَمَا أُقيم عليه الحدُّ؛ لِمَا عُرِف عنه - صلى الله عليه وسلم - من دَرْئه الحدودَ بالشُّبهات، والرُّواة في الأحاديث الثلاثة المحال إليها اتَّفقوا في السؤال الأول، غير أنَّهم اختلفوا في قوله: ((فهل أُحْصِنت؟))، فمنهم مَن رواه: ((أُحْصِنت)) بحذف همزةالاستفهام، وأظنُّه من فِعْل الرُّواة، فالأحاديث الثلاثة جميعها عن صحابي واحدٍ، هو أبو هريرة - رضي الله عنه - ورُبَّما - وهذا بعيد - كان لتعدُّد الموقف والحال.

    ومن الاستفهام الذي قُصِد به التقرير أيضًا، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وهل مِن نبيٍّ إلا وقد رعَاها؟))[56]، جوابًا على سؤال الصحابة إيَّاه لَمَّا أمرَهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بجَنْي الكَبَاث، وهو ثَمر الأراك[57]، "أكنت ترعى الغنم؟".

    وسؤالهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سؤالُ تعجُّبٍ واستغراب؛ "لأنَّ في قوله لهم: ((عليكم بالأسود منه)) دَلالة على تمييزه بين أنواعه، والذي يميِّز بين أنواع ثمر الأراك غالبًا ما يلازم رعْيَ الغَنم على ما ألفوه"[58]، أمَّا سؤاله - صلى الله عليه وسلم - إيَّاهم: ((وهل مِن نبيٍّ إلاَّ وقد رعاها؟))، فسؤال تقريرٍ وإثبات لا نفي؛ لأنَّ "هل" تُفيد النفي وهذا مما تَختص به[59]، لكن لَمَّا جاء بعدها "إلاَّ" أفادَت التقرير، وهو ما أشار إليه ابن قتيبة، حين ذكَر أنَّ المفسرين "يجعلونها بمعنى "ما" في قوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنعام: 158]، وذكَر آياتٍ أُخَر، ثم قال: هذا كلُّه عندهم بمعنى "ما"، وهو... عند أهل اللغة: تقرير"[60].

    "والتقرير مُستفادٌ مِن كون "هل" التي تُفيد النفي هنا اقترنَت بـ"إلاَّ" التي للحصْر، فأفادَتْ معنًى مُستفادًا مقرَّرًا، وهو أنَّ جميع الأنبياء قد رَعَوا الغنم، بدليل التأكيد بـ"مِن الزائدة"، ودَلالة العموم المستفادة من النكرة في سياق النفي، وهذا معنى يُسلِّم به جميعُ المؤمنين، فهو من تحصيل الحاصل عند كلٍّ من المتكلِّم والسامع، فيكون الاستفهام المتعلِّق بها إثباتًا له، وزيادة في ترسيخه[61].

    ومن التقرير بالهمزة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أليس قد مكَث هذا بعده سنة؟))، قالوا: بلى، قال: ((وأدْرك رمضان فصامَ، وصلَّى كذا وكذا سجدة في السَّنة؟))، قالوا: بلى، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض))[62].

    واستفهامه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذا جاء تعقيبًا على تعجُّب الصحابة من دخول أحد رجلين من بلي الجنة قبل الآخر، وهما أسلما جميعًا، وخرَج أحدهما إلى الجهاد - وكان أشدَّ اجتهادًا من صاحبه - فجاهَد، فاستُشْهِد، ثم مكَث الآخر بعده سنة، ثم توفِّي، فرآهما طلحة بن عبيدالله - رضي الله عنه - في المنام عند باب الجنة، فخرَج خارج من الجنة، فأَذِنَ للذي تُوفِّي أخيرًا منهما، ثم خرَج فأَذِن للذي استُشْهِد، ثم رجَع إلى طلحة، فقال: "ارجع؛ فإنَّك لَم يأنِ لك بعدُ"، فلمَّا حدَّث طلحة بما رأى، عَجِب الناس، وقالوا: يا رسول، هذا كان أشدَّ الرجلين اجتهادًا! ثم استُشْهِد، ودخَل هذا الآخر الجنة قبلَه، فسألهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سؤاله ذلك[63].

    والاستفهام دخلَت الهمزة فيه على النفي، فأثْبتَتْه، والنبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - قرَّرهم مُنبِّهًا، لِمَ كان التمايُز بينهما بسؤاله هذا، وكان يُمكنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يعبِّر بطريق التقرير الخبري، فيقول لهم: "إنَّ هذا مكَث بعد صاحبه سنةً، فصام وصلى.."، لكنَّه عمَد إلى تقرير هذا المعنى بطريق الاستفهام؛ لِمَا فيه من إثارة، ولِمَا فيه من انتزاع إقرارهم بألْسِنتهم؟ وهذا "أمكن من التقرير الخبري، وأبلغ في التوكيد"[64].

    وهذه ميزة التقرير بالاستفهام أنَّ فيه انتزاعًا بالإقرار من المخاطب، وإقرارُ المخاطب بمضمون الاستفهام - ثبوتًا أو نفْيًا - آكدُ من ذِكْره بأسلوب الخبر، ثم إنَّ أسلوب الاستفهام يحقِّق عنصر التفاعل بين المتكلم السائل، والمستمع المسؤول، وهو ما حدَث في حديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والطَّريف أنَّ الصحابة الكرام أجابوا على كلِّ استفهام بـ"بَلَى" تقريرًا، والرسول لَم يكن يهدِف إلى أنْ يُجيبوا؛ لأن ما اسْتَفهَمهم عنه معلومٌ من سياق الحال قبل؛ من حيث إنَّ الآخر بَقِي بعد صاحبه سنة، ومن حيث الصلاة والصيام، فهذا أمرٌ معلوم بالضرورة، لكنَّهم أجابوا؛ بسبب الطريقة التي ألْقَى بها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الاستفهام، وما صَحِب ذلك من إشارات أو علامات على الوجْه، لا يُمكننا الجزْمُ بها إلاَّ افتراضًا، غير أنَّ سياق الحديث يُوحي بها.

    وهذا ما نُعنيه بقولنا: إنَّ الأسلوب الإنشائي يتميَّز بالحيويَّة والتفاعل؛ لأنه يجعل فعْلَ الكلام فعْلاً إيجابيًّا تتحقَّق فيه حضوريًّا عناصرُ عمليَّة الاتصال الثلاثة: المرسِل، والمستقبِل، والرسالة، ولا سيَّما أنَّ ذلك كان يتمُّ مشافَهة.

    ثانيًا: النفي:
    تدور معاني كلمة النفي لغةً حول: الطرْد والإبعاد والجَحْد، "يقال: نَفَيْت الرجل وغيره، أَنفيه نفْيًا، إذا طردْته..، ونَفْيُ المخنَّث: ألاَّ يَقَرَّ في مُدن المسلمين..، ونَفَى الشيءَ نفْيًا: جَحَده، ونَفَى ابنَه: جَحَده..، وفي الحديث: المدينة كالكِير تَنفي خَبَثَها؛ أي: تُخرجه عنها، وهو من النفي: الإبعاد عن البلد"[65].

    هذا المعنى اللغوي للكلمة مراد كذلك في الاستفهام، فالمستفهم الذي يقصد النفي من سؤاله يطلب من المسؤول أن يستبعد نقيض النفي وهو الإثبات، ويخرجه من دائرة إقراره الثبوتي، بل عليه أن يقرَّ بالسلب؛ أي: بسلب مضمون الحكم الذي تضمَّنه الاستفهام، وشرط دلالة الاستفهام على النفي أن يصحَّ "حلول أداة النفي محل أداة الاستفهام"[66].

    ومنه قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حكايةً عن ربِّ العزة - سبحانه - سائلاً اليهود والنصارى: "هل ظلمتكم من حقِّكم شيئًا؟"[67]، في سياق الردِّ على اعتراضهم وهو أنْ يعمل اليهود إلى نصف النهار، والنصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر، ويعمل المسلمون من صلاة العصر إلى صلاة المغرب على ضِعف أجْر ما لكلِّ فريقٍ منهم، فقالوا غاضبين: نحن أكثر عملاً وأقلُّ عطاءً، قال الله: ((هل ظلمتُكم من حقِّكم شيئًا؟))، قالوا: لا، قال: ((فإنه فضْلي، أُعطيه مَن شِئْت))[68].

    والسياق يوضِّح أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أرادَ أن يقررَهم بنفي الظلم عنهم، بدليل إجابتهم بـ"لا"، وبدليل صحة حلول "ما" مكان "هل"، وبلاغة الاستفهام هنا تكمُن في سرِّ اختياره أسلوبًا للتعبير، واستبعاد أسلوب النفي الصريح؛ إذ كان يُمكن أنْ يقول الحق - جل وعلا - فيما حكاه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما ظلمتُكم من حقِّكم شيئًا))، لكن لكون اليهود والنصارى اعترضوا على تفضيل أُمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالأجْر مرَّتين، كان الأوقع أنْ يُقِرُّوا هم على أنفسهم بالنفي، وهذا أبلغُ من التعبير بالنفي الصريح ابتداءً؛ إذ في استنطاق المعترض بإقراره بنفْي الظلم أبلغُ دَلالة على كمال العدل الإلهي، "فأسلوب الاستفهام في أصْل وضعه يتطلَّب جوابًا يحتاج إلى تفكير، ولَمَّا كان المسؤول يُجيب بعد تفكير ورَوِيَّة عن هذه الأسئلة بالنفي، كان في توجيه السؤال إليه حَمْلاً له على الإقرار بهذا النفي، وهو أفضلُ من النفي ابتداءً"[69].

    وعلى ذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم، يغتسل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّات؟ هل يبقى مِن دَرَنِِه شيءٌ؟))[70]، فقوله: ((هل يَبقى من دَرَنه شيءٌ؟)) القصْد منه النفي، وإنما آثَر التعبير عنه بأسلوب الاستفهام؛ حثًّا لهم على التفكير والتدبُّر في أثر الوضوء والصلوات الخمس، والدَّرَن المنفيُّ بقاؤُه قد يكون ماديًّا، فيكون الأمر خاصًّا بالتفكُّر في آثار الوضوء، وقد يكون معنويًّا، والمراد الذنوب التي يغسلُها الوضوء وتمحوها الصلاة؛ ولذلك عقَّب - صلَّى الله عليه وسلَّم - على إقرارهم بالنفي بقوله: ((فذلك مَثَلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا))[71].

    وسِرُّ عُدوله - بالاختيار - إلى أسلوب الاستفهام عن النفي الصريح، أنَّ النفي الصريح حُكمٌ قد يصدِّقونه، ويجوز ألاَّ يصدقونه، أو على الأقل لا يأْبَهون له، لكنَّ إجراءَه على ألسنتهم إقرارٌ بنفْيه؛ أي: إقرارهم هم أنفسهم بأنَّ مَن كان أمامه نَهرٌ يغتسل منه خمسَ مرَّات، لا يَبقى من دَرَنه شيءٌ، فيه مزيدُ تنبيهٍ وتذكير لهم بأنَّ هذا الذي لا تُمارون فيه، إنما هو مَثَل الصلوات الخمس التي يمحو الله بهنَّ الخطايا، فلا ينبغي أنْ تغفلوا عن الصلوات الخمس، فإقرارهم بالنفي أوقعُ في نفوسهم وأبلغُ من أنْ يعبِّر عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالنفي ابتداءً، والاستفهام الأوَّل: ((أرأيتم؟)) القصْد منه الأمرُ.

    ثالثًا: الأمر:
    ورَد أسلوب الاستفهام بمعنى الأمر في مواضع، منها: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فهل أنتم صادقي؟))[72]، فالقصد ليس سؤال اليهود على الحقيقة، بل القصْد أمرُهم بالصدق، واختار التعبير عن الأمر بالاستفهام؛ حثًّا لهم على الصدق، وتلطُّفًا معهم؛ كي لا يكذبوا، فرُبَّما لو أمَرَهم لنَفروا منه، فالأمر المباشر بالصدق كأن يقول: "اصدقوني إنْ سألتُكم عن كذا"، مُشْعِرٌ بعدم ثقة الآمر في المأمور؛ ولذا أمَرَه بأن يصدق، ثم في التعبير عن الأمر بالاستفهام بـ"هل" -مع الجملة الاسمية - أفاد الدَّلالة على بلوغ الغاية في الاهتمام والعناية بأن يَصدقوه فيما يسألهم عنه؛ لأن أصْل "هل" أن تدخلَ على الفعل لا الاسم، فإذا عمَد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو "البليغ الذي درب على أساليب العرب الفُصحاء، وعرَف مواضع الكلام وتفاوُتَه بحسب مُقتضيات الأحوال، فيضع لكلِّ مقامٍ مقالاً"[73]، إلى اختيار الجملة الاسمية لا الفعلية، فهذا يعني أنه أرادَ دِقَّة التعبير، فعِلْمُه بأنَّ اليهود درَجوا على الكذب - حتى لقد كذبوا على ربِّهم، فقالوا: عزير ابنُ الله - هو الذي استدعَى تأكيده على ضرورة الصدق في هذا المقام.

    ومنها قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للسيدة جُوَيريَّة زوجته - رضي الله عنها - وقد "دخَل عليها، فقال: ((هل من طعام؟))، قالت: لا، والله يا رسول الله، ما عندنا من طعام إلاَّ عَظْم شاة أُعْطِيَتْهُ مَوْلاتِي من الصَّدَقة، فقال: قرِّبيه، فقد بلغتْ مَحِلَّها))[74]، وسؤال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - زوجتَه - رضي الله عنها - بعد دخولها عليه، إنَّما هو من سؤال الآمر للمأمور؛ إذ هو الزوج وهى الزوجة، والموقف موقف طلبٍ، "فمِن سمات المقام الذي يخرج فيه الاستفهام إلى الأمر أن يكون الطالبُ في موقعٍ اجتماعي أو غيره، مُتصل أو منقطع، عالٍ بالقياس إلى موضع السامع، وأن يتوفَّر في ذَاكِرَتَيْهِما المشتركة جُملة من الأحداث أو الرَّغبات، يُمكن أن يطلبَ تحقيقها على سبيل الاستفهام[75].

    والأسلوب المعتاد في مثل هذا الموقف: "أحْضري الطعام"، أو "ائْتِني بالطعام"، وفرْقٌ كبير بين طلب الطعام بصيغة الأمر، وبين العدول عنه إلى أسلوب الاستفهام، فالأمر في مثل هذا السياق، أمرٌ حقيقي على سبيل الاستعلاء، والآمر يطلب بصيغة تَخلو تمامًا من مُراعاة العلاقة الطَّيبة بين الزوج والزوجة، علاقة المودَّة والحبِّ، بل رُبَّما إنْ ضغطَ على الفعل "أحْضري" في النطق، لأشعرَ بغضبٍ أو اشمئزازٍ من الزوج على زوجته، أو لأشعرَ بالاستبطاء في إعداده.

    أمَّا في العدول عنه بإيثار التعبير بتركيب الاستفهام "هل مِن طعام"، ففيه إلى جانب الأمر معاني التلطُّف في الطلب واللين، ومُراعاة مشاعر الزوجة؛ ولا سيَّما وأنَّ السؤال مُشْعِرٌ بعِلْم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن بَيْتَه رُبَّما لا يكون فيه طعام؛ ولذلك سألَ عن جنس الطعام، بل هو مُشْعِر كذلك برضا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن حاله، وكأن مضمون سؤاله: إذا كان عندك أيُّ طعام، فأْتِني به، وإلاَّ فلا عليك، بخلاف لو خرَج الكلام بصورة الأمر المباشر، فالآمر حينئذٍ لا يُبالي بشيءٍ سوى تنفيذ ما أمَرَ به!

    وقد تكرَّر في استفهامات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صيغة معيَّنة للاستفهام تدلُّ على معنى الأمر هي: "أرأيت؟"، وهي صيغة يُمَهد بها لسؤال آخر تالٍ، مُترَتب على الأول، وقد وردتْ في ثلاثة مواضع، هي قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أرأيت لو مَضْمَضْتَ من الماء وأنت صائمٌ؟))[76]،وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرَّات؟))[77]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حكاية على لسان الدَّجال: ((أرأيت إنْ قتلتُ هذا ثُمَّ أحييتُه؟ هل تشكُّون في الأمر؟))[78].

    وهو أسلوب قرآني تأثَّر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وورَد كثيرًا في القرآن الكريم، ومنه في القرآن الكريم قولُه - عزَّ مِن قائل -: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الملك: 28]، وقوله: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾[الملك: 30]، وقوله: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾ [الفرقان: 43].

    وهو "استفهام خرَج إلى الأمر بمعنى أخبرني"[79]: أيبطل الصيام لو مَضْمَضْت من الماء وأنت صائم؟ فكذلك القُبْلة في الصيام، في الموضع الأول، وأخبروني: هل يَبقى من دَرَن الإنسان شيءٌ إذا اغتسَل من نهرٍ أمام داره خمس مرات؟ فإذا أقررْتُم بالنفي، فكذلك الذنوب تمحوها الصلوات الخمس، ولا يَبقى منها شيءٌ ما اجْتُنِبَتِ الكبائر، وكذلك في الموضع الثالث: وهو حكاية على لسان الدَّجال، فلِمَ لَم يَخْتَرِ النبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - صيغةَ الأمر المفترضة، وآثَر عليها أسلوبَ الاستفهام؟

    إن توجيه الكلام بأسلوب الاستفهام في مقام الأمر، فيه إغراءٌ للمخاطب على الاستجابة، وحثٌّ عليها، واحترامٌ من السائل للمسؤول؛ لترْكه الأمرَ وهو قادرٌ عليه[80]، كما فيه حثٌّ على إعمال العقل في تدبُّر المعنى المُمَثَّل له، فإذا أقرَّ بما أراده الرسول جوابًا للاستفهام، سَهُل عليه أن يقيسَ عليه إجابةَ السؤال الثاني؛ ففي السؤال الأول مثلاً: أخبر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتقبيله وهو صائم، ظانًّا أنه أتَى أمرًا عظيمًا، فسأله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أرأيت لو مَضْمَضْتَ من الماء وأنت صائم؟))، في الكلام حذف تقديره: "أرأيت..؟ هل ترى فيه شيئًا؟ أو هل تراه أمرًا عظيمًا؟"، فأجاب عمر بن الخطاب: لا بأْسَ به، وهو ما كان يَعنيه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يجعلَه مشارِكًا له في استنتاج الدَّلالة، أو في الوصول إلى الحُكم؛ ولذا عقَّب النبيُّ على إقراره بنفي البأْس والحرَج عمَّن مَضْمَض وهو صائم، بقوله: ((فمه))؛ أي: "انْكَفِفْ عمَّا أنت فيه"[81]، وخَفِّف عنك ظنَّك بعِظَم ما اقترفْتَ، فما فعلتَ شيئًا يستحقُّ أنْ تقلَقَ أو أن تستعْظِمَه.

    يتبع




     
  3. رابعًا: الإثارة والتشويق:
    والإثارة والتشويق يلتقيان لُغويًّا في معنى تهييج المشاعر وتحريكها، غير أنَّ الإثارة تهييج للمشاعر على الإطلاق؛ سواء مِن غضَبٍ أو مِن غيره، فـ"ثارَ الشيء ثَوْرًا وثُؤُورًا، وثَوَرَانًا وتثوَّر: هاجَ...، ويقال: ثارتْ نفسه إذا جَشَأَتْ، وإنْ شِئْتَ، جاشَت..، وكل ما استخرجتَه أو هِجْتَه، فقد أثَرْتَه إثارةً وإثارًا، وثَوَّرْتُه واستَثَرْتُه، كما تَستثير الأسد والصيد"[82].

    أما مادة الشوق، فتعني: "نِزَاع النفس إلى الشيء...، والشوق حركة الهوى..، ويقال: شُقْ إذا أمَرَتَه أن يشوِّقَ إنسانًا إلى الآخرة....، وشاقَني شوقًا وشوَّقني: هاجَني، فتشوَّقت إذا هَيَّجَ شوقَك"[83].

    فالمراد بالإثارة والتشويق - كمعنًى للاستفهام - توجيه السامع أو المتلقِّي إلى الانتباه، بتحريك مشاعره نحو أمرٍ محبوب يرغب فيه السائل؛ بقصْد استمالته نحو ما سيُلقيه إليه بعد الاستفهام، وقد توخَّى الرسول الكريم معنى الإثارة والتشويق في كثيرٍ من استفهاماته، منها: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أُخبركم بخَيْر دُور الأنصار؟))[84]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفلا أعلِّمكم شيئًا تُدركون به مَن سبَقَكم، وتَسبقون به مَن بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم، إلاَّ مَن صنَع مثلما صنعتُم؟))[85].

    والاستفهام لتضمُّنه ما يُشتاقُ إلى معرفته، حقَّق الإثارة وهيَّج شعور الصحابة بقرينة أن الصحابة تشوَّقوا إلى أن يُخبرهم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما شوَّقهم إليه، فقالوا: "بلى يا رسول الله"، فالأنصار تشوَّقوا إلى أن يَعرفوا مَن سيخصُّهم الرسول بهذه الخيريَّة، ومَن اشتكوا إليه استئثارَ الأغنياء بالثواب؛ لاجتماعهم معهم في العبادات، وتميُّزهم بالعِتق والصَّدَقات، تلهفت أنفسُهم إلى معرفة ما العمل الذي سيجعلهم يتميَّزون عنهم به، بل يَسبقونهم، ومَن لا تميل نفسُه إلى هذا الخير؟!

    أمَّا سِرُّ اختيار الاستفهام أسلوبًا للتعبير عن هذه المعاني بدلاً من الخبر، كأن يقول مثلاً: "خَيْر دُور الأنصار كذا"، و"سأعلِّمكم بما تُدركون به مَن سبَقَكم..."؛ فلأن في إيثار التعبير بالاستفهام - في مقام الإثارة التشويق - بلوغًا بالإثارة والشوق في نفوس السامعين إلى أقصى حدٍّ، ثم فيه استيلاؤه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على نفوس جميع سامِعيه.

    أمَّا أسلوب الخبر، فقد لا يتحقَّق له ذلك؛ لأن الاستفهام بطبيعة صيغته فيه جذْبٌ للانتباه، فإذا اجتمَع مع جذْبِ الانتباه التشويقُ، فقد بلغَت الإثارة غايتَها، كما أنَّ في أسلوب الاستفهام في مثل هذا المقام تجسيدًا فعليًّا للتواصُل بين المنشِئ والمتلقِّي، فيُصبح المتلقي فاعلاً هو الآخر في بناء النص، أمَّا الأسلوب الخبري، فالمتلقِّي مستمعٌ فحسب، دَوْره التلقي فحسب دون التفاعل الحي مع النصِّ؛ بالسؤال والجواب والتعقيب.

    ولا يَلْزم في الاستفهام الذي للتشويق أنْ يُجيب السامع بما يفيد موافقته على إخباره بما يشوِّقه إليه؛ فالقصْد من هذا الأسلوب استدراجُ السامع "إلى الانتباه إلى ما يلحق الاستفهام من كلام، وعادة ما يواصِل المتكلم كلامَه دون أن يحصلَ على موافقة سامعه"[86]؛ كما في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أُخبركم بخير الناس وشَرِّ الناس؟))[87]، فلم يَنتظر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - موافقةَ سامِعيه من الصحابة، بل واصَل الكلام وأخْبَرَهم.

    خامسًا: الإعلام والتبشير:
    من الطبيعي أن يسأل السائل؛ ليعلمَ ما لا يعلم، أو ما يريد أن يعلم، وهذا هو الأصل في الاستفهام، "فمن جَزِع من الاستبهام، فَزِع إلى الاستفهام"[88]، أمَّا أن يعمدَ المتكلم إلى الإعلام بطريق السؤال، فهذا إبداع فني، وهو ما يؤكِّد أنَّ فنيَّة اللغة المستعملة أكبرُ من أن تُقَنَّنَ في قواعدَ وأصول.

    والملاحظ أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يعمدْ إلى هذه الطريقة في الاستفهام إلاَّ حين يريد أن يُعْلِمَ المستمع له بخبرٍ يتضمَّن بُشرى تخصُّ المستمع أو تخصُّه والمستمع معًا، وورَد ذلك ثلاث مرات، منها: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعائشةَ - رضي الله عنها -: ((ألَم ترَيْ مُجَزِّرًانظَر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد))، فقال: ((إن بعض هذه الأقدام من بعض))[89]، وقوله: مخاطبًا عائشة - رضي الله عنها - أيضًا: ((أشعرتِ أنَّ الله أفتاني فيما فيه شفائي؟ أتاني رجلان، فقعَد أحدهما عند رأْسي، والآخر عند رِجْلي، فقال أحدهما للآخر: وما وجَع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: ومَن طَبَّه؟ قال لَبيد بن الأعصم، قال: فماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاقة، وجُفِّ طلعة ذَكَر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذَرْوَان))، فخرَج إليها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم رجَع، فقال لعائشة حين رجَع: ((نَخْلُها كأنها رؤوس الشياطين))، فقلتُ: اسخرجتَه؟ فقال: ((لا، أمَّا أنا، فقد شفاني الله، وخَشِيت أن يُثير ذلك على الناس شرًّا، ثم دُفِنَت البئر))[90].

    وسياق الاستفهام الأوَّل أنَّ المشركين كانوا: "يقدحون في نسب أسامة؛ لكونه أسودَ شديدَ السواد، وكان زيد أبيضَ - كذا قاله أبو داود عن أحمد بن صالح -[91]، فلمَّا قضَى هذا القائف بإلحاق نَسَبِه مع اختلاف اللون، وكانت الجاهلية تعتمد قولَ القائف، فرِحَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكونه زاجرًا لهم عن الطَّعْن في النَّسَب"[92].

    وقد قال النبي هذا الاستفهام لعائشة بعد سماعه مُجَزِّرًايقول: "إنَّ بعض هذه الأقدام من بعضٍ"، يعني: أقدام أسامة وأبيه زيد "وتحدَّث عن الأقْدَام، ولَم يتحدَّث عن الوجوه؛ لكونهما كانا قد غَطَّيَا رؤوسهمابقطيفة، ويبدو أنهما كانا نائمَيْن"[93]، فدخَل على عائشة مسرورًا تَبْرُق أساريرُ وجْهه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقصْده من الاستفهام إعلامُها بما سَمِع من قول مجزر، وهو في ذاته بُشرى يسوقها إليها، ولو عَلِم أنها لا تُسَرُّ، لَمَا سارَع - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى إعلامها، فالمراد منه إذًا "الإخبار أو العلم"[94] بما كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - في شوقٍ إليه، وهو إثبات نسَبِ زيدٍ- رضي الله عنه - لأبيه، ولَم نقل: إن القصْدَ منه التشويق؛ لكون الاستفهام تضمَّن في بنائه البُشرى أو الخبر السارَّ، أمَّا في التشويق، فالمُشَوَّق إليه لا يُذْكَر في الاستفهام نفسه، بل يُذْكَر بعده، وهذا هو الفرق بين التشويق بخبر سارٍّ، وبين التبشير.

    وأمَّا في الموضع الثاني، فالقرينة - على أنَّ القصْدَ منه الإعلام والتبشير - أنَّ بناءَ الاستفهام نفسه تضمَّن البشرى: ((أشعرتِ أنَّ الله أفتاني فيما فيه شفائي؟))، وقول عائشة - رضي الله عنها - تَصِف حالَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل هذه الرُّؤْيا: "سُحِر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى كان يُخَيَّل إليه أنه يفعلُ الشيءَ وما يفعله، حتى كان ذات يوم دَعَا ودَعَا، ثم قال: أشعرتِ..؟"[95]، فالموقف موقف ثقيلٌ على النبي؛ حيث إنه سُحِر، حتى ليُخيَّلُ إليه أنَّه يفعل الشيء وما يفعله، فاجتهدَ في الدعاء، ثم إذا به يُخبر عائشة بهذا الاستفهام، فالإعلام باستجابة الله دعاءَه وإراءَتِه الرُّؤْيا التي رآها، وهي رُؤْيا فيها شفاؤه، وهي لَم تكن تَنتظر سوى شفائه - صلَّى الله عليه وسلَّم.

    وكان يُمكنه - صلى الله عليه وسلم - أن يلجأَ إلى أسلوبٍ آخرَ، فيقول مثلاً: "يا عائشة، إن مجزِّرًاقال: كذا"، و"يا عائشة، إنَّ الله أفتاني"، فهل الأسلوب المفترض في بلاغة أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - المختار؟! بالطبع بينهما فرق شاسعٌ؛ فالأسلوب المفترض أسلوب خَبَري، القصْد منه الإخبار فحسب أو الإعلام، ورُبَّما يُستفاد منه معنى التبشير كذلك، غير أنَّ الأسلوب المختار يتضمَّن تِلْكُما الدَّلالتَيْن، ويَزيد عليهما معاني أُخَر، هي جَذْب الانتباه، وإظهار الفرَح والسرور، وفي إخراج البُشرى والإعلام بها بطريق الاستفهام مزيدُ عناية من المتكلم بالبُشرى؛ ولذا أخْرَجَها على هذا الأسلوب المثير.

    وجميع الاستفهامات الواردة على لسان الرَّجُلين في رُؤْياه - صلى الله عليه وسلم - القصْد منها كذلك إعلامه - صلى الله عليه وسلم - وتبشيره بما فيه شفاؤه، فالقصْد أن يسأل أحدهما ويُجيب الآخر، فضلاً من الله عليه - صلى الله عليه وسلم - ليعلمَ وليستبشرَ بفرَجِ الله عليه بما فيه شفاؤه، ولعلَّه تأثَّر بهذا الأسلوب في الحوار، فأخرَج كلامه لعائشةَ على هذا النحو، والله أعلم.

    سادسًا: الاستدراج:
    الاستدراج: استفعال من دَرَجَ، وأصْلها ترتيب شيءٍ فوق شيء، ومنه: "دَرَجَ البناء ودَرَّجَه، بالتثقيل: مراتب بعضها فوق بعض"[96]، واستدرَج فلانٌ فلانًا؛ "أي: أدناه منه على التدريج، فتدرَّج هو..، ورُوِي عن أبي الهيثم: امتنَع فلان من كذا وكذا، حتى أتاه فلان فاستدرَجَه؛ أي: خدَعَه؛ حتى حَمَله على أن دَرَج في ذلك"[97]، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ[الأعراف: 182]، وقوله: ﴿ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ[القلم: 44].

    وعلى ذا، فالاستدراج: انتقال بالمستَدْرَجِ من أمرٍ إلى أمرٍ آخرَ، أو من حُجَّة إلى حُجَّة أخرى، أو من حال إلى حالٍ بطريقة من طُرق الكلام، بحيث لا يشعر أو يعلم المستدْرَج، والقصْد من الاستدراج إقامةُ الحُجَّة على المستدْرَج وإلزامه بها؛ سواء بحقٍّ أو بباطلٍ، وهو في الاستفهام: إلجاء المسؤول إلى جواب يكون حُجَّةً عليه.

    ولَم يستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ في حقٍّ، وورَد ذلك في حديثه - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهود في شأْن الشاة المسمومة التي أهدوها إليه؛ رغبةً في قتْله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني سائلكم عن شيءٍ، فهل أنتم صادقي عنه؟))، فقالوا: نعم، قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أبوكم؟))، قالوا: فلان، فقال: ((كذبتم، بل أبوكم فلان))، قالوا: صدقت، قال: ((فهل أنتم صادقي عن شيءٍ إن سألت عنه؟))، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإنْ كذبْنا، عرَفت كذبنا كما عرَفته في أبينا، فقال لهم: ((مَن أهل النار؟))، قالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تخلفونا فيها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا))، ثم قال: ((هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟))، قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: ((هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا؟))، قالوا: نعم، قال: ((ما حملكم على ذلك؟))، قالوا: إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًّا لَم يضرَّك"[98].

    وفي حديثه إلى أعرابي جاء مُنكرًا ولده؛ لأنه وَلَدٌ أسود، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هل لك من إبل؟))، قال: نعم، قال: ((ما ألوانها؟))، قال: حُمر، قال: ((فهل فيها من أوْرَق؟))، قال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأنَّى هو؟))، قال: لعلَّه يا رسول الله يكون نزَعه عِرْق له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وهذا لعلَّه يكون نزعه عِرْق له))[99].

    فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم مَن هم اليهود خداعًا ومكرًا وكذبًا، وقد أعْلَمه الله - عز وجل - بأنَّ الشاة مسمومة، وأخبَر هو - صلى الله عليه وسلم - صحابتَه بذلك[100]، وكان يُمكنه - صلى الله عليه وسلم - أن يسألَهم منذ البَدء: هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا؟ لكنَّه عَمَد إلى استدراجهم بهذه الاستِفهامات المتتالية؛ ليُلجئهم في النهاية إلى الإقرار؛ لِمَا يعلم من مُعاندتهم، فسألهم عن أبيهم فكذبوا، فأخبرهم مَن يكون، فأقرُّوا له بالصِّدق، ثم سألهم عن أهل النار فكذبوا، فأخبرهم، فلم يَنقضوا قوله، بل سكتوا إقرارًا منهم بصِدْقه؛ ولذا لَمَّا سألهم مُستدرجًا إيَّاهم في الثالثة: ((هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا؟))، اعترفوا بفَعْلتهم، ولو أنه - صلى الله عليه وسلم - عَمَد بالاختيار إلى الأسلوب المفترض، فسألهم عن الشاة أوَّل ما سأل، لكَذَبوا كما كذَبوا أوَّل مرة، ولكنَّه أرادَ أن يُلزمهم بالصِّدق؛ ولذا تدرَّج معهم من سؤال إلى سؤال، مُرتقيًا في التضييق عليهم وإلجائهم إلى الصدق؛ إقامةً للحُجَّة عليهم في أمر الشاة المسمومة، وإظهارًا لسوء طويَّتِهم وخُبثهم ومَكْرهم[101]، وهذا هو الأسلوب الأمثل في خطاب اليهود، وهو أسلوب قرآني حكاه القرآن الكريم عن إبراهيم - عليه السلام - حين دعا قوْمَه إلى الإيمان، فتدرَّج بالنظر في الكواكب والقمر والشمس، مُحتجًّا عليهم بأُفول الكوكب والقمر والشمس، فاستدرَجهم رُويدًا رُويدًا إلى بُطلان كونها آلهةً تُعْبَد؛ إلزامًا لهم ببُطلان كون أصنامهم آلهةً في الآيات "75: 83" من سورة الأنعام[102].

    وكذلك كانت بلاغته - صلى الله عليه وسلم - مع الأعرابي، فهل هناك أعرابي يعيش في الصحراء يَستغني عن الإبل؟ وكان يُمكنه - صلى الله عليه وسلم - أن يُجيب على الأعرابي بقوله: "لعلَّ هذا الغلام نزَعه عِرْق إلى جَدٍّ من جدوده"، لكنَّ الرجل رُبَّما فَهِم ذلك على أنه مجرَّد تعقيب على ما ذكَره للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو مجرَّد تطييب لنفس الرجل، وحتمًا لَم يكن ليشفي ما بنفسه من ثورة وشكٍّ وألَمٍ، وإلاَّ لَمَا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو إليه امْرأته ويَستفتيه.

    ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان طبيبًا بنفوسأصحابه، خبيرًا بما يصلح أدواءهم، استدرَج الأعرابي إلى الحجَّة الملزمة باستنطاقه هو بما فيه شفاء نفسه، وكلُّ ما فعَله النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تدرَّج معه من سؤال إلى سؤال، فَهِمها الرجل جميعًا على أنها أسئلة حقيقيَّة، وهي كذلك، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتغَى منها في النهاية استدراجَ الأعرابي إلى ما يَشفي صدره، سأله عن الإبل: ((هل عنده منها شيء؟))، فأجاب الرجل: نعم، فسأله عن ألوانها، فقال: حُمر، فسأله عمَّا إذا كان فيها جَمَلٌ أَوْرَقُ، "والأوْرَق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد"[103]، وحتمًا سيكون من بين الإبل أوْرَق، فالرسول عالِم ببيئته وما فيها، فأجاب الرجل: نعم، وهنا سأله مستدرِجًا عن السرِّ في اختلاف لونه عن لون غيره، فأقرَّ الرجل من حيث لا يشعر: "لعلَّه يا رسول الله يكون نزَعه عِرْق له"، فاستدرَجه إلى ما أرادَ، ((وهذا لعلَّه يكون نزَعه عِرْق له))، فألزَمه بقياس هذا على ذاك؛ إلزامًا له بالحُجَّة، وقيمة هذا الأسلوب يظهر في إلجائه - صلى الله عليه وسلم - المستدرج إلى الحُجَّة التي لا يحير معها جوابًا، لأنه تدرَّج معه من حالٍ إلى حال؛ إقناعًا له، وتمكينًا لِمَا أرادَ أن يَحسبه به في نفسه، وهذا أبلغ شفاءً ودواءً للنفس الحائرة، وأقوى ردعًا وزجْرًا للمُعاند، وآكد وألْزَمُ للحُجَّة لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمع وهو شهيد.

     
  4. سابعًا: الاستدراك:
    تدور معاني "دَرَك" حول الإدراك لِمَا سبَق: "بمعنى اللحاق والوصول إلى الشيء...، قال الليث: الدَّرَك: إدراك الحاجة ومطلبه..، واستدركْتُ ما فات، وتداركْتُه بمعنًى"[104]، و"استدرَك الشيء بالشيء: حاوَل إدراكَه به"[105]، فالاستدراك: طلب إدراك أمْرٍ ما، أو كلام سابق في حوار بين السائل والمسؤول، ويكون حين يعمَد السائل إلى استعادة ما قال؛ رغبةً منه في زيادة بيان، أو إيضاح، أو ترسيخ لحُكمٍ، أو تغيير له، أو تأكيدٍ لِمَا قِيل، أو تَنبيهٍ له.

    وقد آثرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعبير به في خمسة أحاديث، وجميعها ورَد فيها الاستفهام بصيغة واحدة، هي: ((كيف قلت؟)).

    من ذلك حديثه الذي وعَظ فيه الصحابة وذكَر لهم فيه: "أنَّ الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ قُتلت في سبيل الله، يكفِّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((نعم، إنْ قُتلت في سبيل الله، وأنت صابرٌ مُحتسبٌ، مُقبل، غير مُدبر))، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف قلت؟))، قال: أرأيت إنْ قُتلت في سبيل الله، أيكفِّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم، وأنت صابرٌ مُحتسب، مُقبل، غير مُدبر إلاَّ الدَّيْن؛ فإن جبريل قال لي ذلك))[106].

    وحديثه - صلى الله عليه وسلم - إلى الفُرَيْعَة بنت مالك؛ حيث سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتنتقل إلى أهلها بعد وفاة زوجها، ولا سيَّما أنها لَم تكن في مسكنٍ له، ولا يجري عليها منه رِزْق؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((افعلي))، ثم قال: ((كيف قلتِ؟))، فأعادتْ عليه قولَها، قال: ((اعتدِّي حيث بلغَكِ الخبر))[107].

    والقصد من الاستفهام بقوله: ((كيف قلت؟)) استعادة طرْح السؤال مرة أخرى عليه - صلى الله عليه وسلم - وهذا استدرَاك؛ لمزيد تنبيهٍ، وزيادة تأكيدٍ على ما زادَه على إجابته في الحديث الأول، وهو الدَّيْن؛ تنبيهًا على أنَّ حقوق الناس - ولا سيَّما الدَّيْن - لا يكفِّرها الجِهاد والشهادة في سبيل الله[108]؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((القتل في سبيل الله يكفِّر كلَّ شيء إلاَّ الدَّيْن))[109]؛ ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مات الميِّت سأل: ((هل ترَك لدَيْنه مِن قضاء؟))، فإن أُجيب أنه ترَك وفاءً لدَيْنه، صلَّى عليه، وإن حُدِّث أنَّه لَم يفعل، أمَر أصحابه، فصلَّوا عليه[110].

    أما في الحديث الثاني، فاستدرَك - صلى الله عليه وسلم - إجازتَه الفُرَيْعةَ أن تَعْتَدَّ في بيت أهلها بقوله: ((كيف قلتِ؟))، فأعادتْ عليه قولَها، فقال: ((اعتدِّي حيث بلغَكِ الخبرُ))، وهذا استدراكٌ لتغيير الحُكم السابق بجواز أن تعتدَّ في بيت أبيها، فأمَرها أمْرَ وجوبٍ أن تعتدَّ في بيت زوجها؛ حيث بلغَها الخبر[111]؛ كقوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة: 234].

    وفي الحالين استدرَك النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب الاستفهام، "فلِمَ؟" وقد كان يَكفيه أن يأمُرَ أصحابه أو أحدهم بإبلاغ السائل بما أرادَ؛ تعقيبًا على ما أجاب به من قبلُ، لكنَّه حرَص - صلى الله عليه وسلم - أن يستدعي السائل في الحالين، ولنلحظ التعبير بـ"ثم" في الحديثين، وهو ما صرَّحت بدَلالته بعض الروايات الأخرى؛ كما في رواية النسائي من طريق أبي هريرة في الحديث الأول: "...قال: ((نعم))، ثم سكت ساعة، قال: ((أين السائل آنفًا؟))، فقال الرجل: ها أنا ذا، قال: ((ما قلت؟))، قال: قلت:..."[112]، كما حرَص أن يستدرِكَ عليه بالاستفهام، والأمر في الاستدراك مَحمول على أنه أُوحِي إليه به في الحال؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إلاَّ الدَّيْن؛ فإن جبريل - عليه السلام - قال لي ذلك)).

    أما حِرْصه أن يستدعي السائل، فلأن الأمر تشريعٌ، واطمئنانٌ على التبليغ، وأمَّا حِرْصه أن يستدركَ السائل باستعادة ما سأل من قبل بأسلوب الاستفهام، فلِمَا يتميَّز به أسلوب الاستفهام من قُدرة على تنبيه المسؤول، واستثارةٍ وحَثٍّ على الإصغاء لِمَا سيُجيب به في المرة الثانية، ولو استدرَك بقوله مثلاً: "هذا جبريل يقول: إلاَّ أن يكون عليك دَيْن"[113] - وهي من طريق عمرو بن دينار من رواية أبي قتادة أيضًا، والمرجَّح أن رواية الليث أرْجَحُ؛ لكَثرتها من طُرق مختلفة عن النسائي والترمذي ومسلم - لاقْتَصَرت الدَّلالة على الإضافة، وافتقَد الكلام ما يحقِّقه الاستفهام من تنبيه وإثارة واستدراكٍ، والله أعلم.

    ثامنًا: التعجب والاستغراب والدهشة:
    التعجُّب من مادة "العُجْب"، و"العَجَب" بمعنى: "إنكار ما يَرِدُ عليك؛ لقلَّة اعتياده..."، وأصل العَجَب في اللغة - كما قال الزجاج - أنَّ الإنسان إذا رأى ما يُنكره ويَقِلُّ مثلُه، قال: قد عجبتُ من كذا"[114]، فهو يتعجَّب "من الشيء إذا عَظُم موقعه عنده، وخَفِي عليه سبَبُه[115]، وعليه قوله - تعالى -: ﴿ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ[ق: 2].

    فهم يتعجَّبون من قول الرسول مُنذرًا إيَّاهم بأنهم سيُبْعثون للحساب؛ لأنهم اعتادوا على ما درَج عليه آباؤهم من اعتقادهم بعدم البعث؛ ولذا أنْكروا البعثَ، وحَكَى القرآن عنهم في الآية التالية: ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ[ق: 3]، وقد يَرِد التعجُّب بمعنى: إظهار الاستحسان والإعجاب للشيء؛ قال ابن منظور: و"التعجُّب: أن ترى الشيء يُعجبك، تظنُّ أنَّك لَم ترَ مثله"[116].

    فالتعجُّب؛ إمَّا أن يَرِدَ بمعنى إظهار العَجَب استغرابًا ودهشةً؛ لعدم الإلف أو الاعتياد، أو لأن ما يتعجَّب منه ليس له سببٌ معلوم عند السائل، وقد تشتدُّ حِدَّته، فيقترن به الاستنكار، وإمَّا أن يَرِد التعجُّب بمعنى: إظهار الاستحسان والإعجاب، فيكون تعجُّبك لإعجابك به، أمَّا الأول فتعجُّبك منه، وهو يصدر عن المتكلم لأمْرٍٍ ما قد ذكَره أو فعَله المستفهَم - وهو عند المستفهم غير معلومٍ وجْه ذِكْره أو فِعْله؛ لدَلالة الحال والموقف على نقيض ما يذكر أو يفعل، فكأنَّ ما ذُكِر أو فُعِل أصبحَ عند المتكلم أمرًا مُلغزًا مُحيِّرًا، فيسأل سؤالاً، "القصد فيه إلى بيان الاستغراب، ويَجري هذا الاستفهام عادةً بعد حصول الظاهرة موطن التعجُّب"[117]، وهذا موضع الافتراق بينه وبين دَلالة غيره على الحَيْرة، فالقصْد فيها إلى بيان الحَيْرة والشك، والتردُّد بين أمرين، أو عدة أمور، لا إلى الاستغراب.

    وقد أُشربَت بعض استفهاماته - صلى الله عليه وسلم - هذيْن المعنيَيْن، فمن المعنى الأول؛ أي: التعجُّب بمعنى العَجَب والاستغراب والدهشة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَوَمُخْرِجي هم؟))[118]، و((لِمَ؟))[119]، فالاستفهام الأوَّل جاء تعقيبًا على ورقة بن نوفل حين أخبَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراج قوْمه له بعد أن فسَّر له ما رأى - من حديث بَدء الوحي - بأنَّ الذي جاءَه هو جبريل - عليه السلام - الذي كان ينزل على موسى - عليه السلام - من قبل، وتمنَّى أن لو يرجع شابًّا؛ ليؤيِّده بنصره حين يُظْهِر الله نبوَّته.

    والتعجُّب في استفهامه - صلى الله عليه وسلم - هذا مُستفاد من كون ما بشَّره به ورقة من أمْر النبوَّة أمرًا حسنًا ينبغي أن يُسَرَّ به قوْمه؛ لأنه سيرفع ذِكْرهم، فإذا بورقة يُعْلِمه أنَّ ذلك سيقترن بإخراج قوْمه له، وإخراج قوْمه له - ولَم يُسِئ إليهم، بل يُحسن إليهم ويأتيهم بما يرفع شأْنهم - أمْرٌ غير مُعتاد ولا مألوف؛ ولذا يستحقُّ التعجُّب والدهشة والاستغراب، وإذا كان هذا شأْنه معهم ثم يخرجونه، فيمكن أن يُستفادَ منه معنى الإنكار، وأيضًا يُمكن أن يُسْتَشَفَّ منه كذلك معنى الفزَع؛ لكون ورقة فَجَأَ النبيَّ بما لَم يكن يَخطر بباله.

    وكان يُمكنه أن يقول: "أيخرجونني؟"، والفرق أنَّ الأسلوب المفترض لا يحقِّق هذه المعاني التي تناسب حاله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ، وإنما سيكون مَناط معنى الاستفهام استنكاره الخروجَ في حدِّ ذاته؛ لإيلاء الفعل الهمزةَ، لا أن يكون مُخْرجوه هم قومه، فيكون في الأمر عجَبٌ ودهشة واستنكارٌ.

    وفي الموطن الثاني استفَهم - صلى الله عليه وسلم - مَن جاءه فَزعًا قائلاً: "احترقْتُ"، والتعبير بالاحتراق من المتكلِّم ابتداءً دون معرفة سببِ الاحتراق، ودون ظهور أيِّ شيءٍ من معنى الاحتراق الحقيقي لدى السامعين؛ ولا سيَّما أنَّ الرجل عبَّر بالفعل الماضي "احترقْت"، وهو بأصل صيغته يدلُّ على الحدوث في الزمن الفائت، وحُكْم الرجل على نفسه بالاحتراق دون بيان سببِه للرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرٌ يدعو للعجَب؛ ولذا سأله النبي مُتعجِّبًا: ((لِم؟!))، قد يُقال: إن السؤال على حقيقته! غير أنَّ في حذف جملة الاستفهام كاملة وإبقاء حرف الاستفهام، ما يوحي بهذا العجَب والاستغراب والدهشة، فالاحتراق يُناسبه الإيجاز في الكلام، فعلى قدْر حال الرجل خاطَبه النبي، فذِكْر أداة الاستفهام وحْدها كافٍ ومناسبٌ لمناسبة السرعة ببيان سببِ الاحتراق، فالرسول حريص وشغوف ومُتشوقٌ إلى معرفة السبب؛ ليزول هذا العجب عنده وعند الصحابة الكِرام جميعًا، الحاضرين في المسجد الذين يجري الحدَث الكلامي أمام أعينهم، فالسؤال دالٌّ على التعجُّب والدهشة والاستغراب، وإن لَم يَخلُ من دَلالته الحقيقيَّة.

    وقد كان يستطيع ألاَّ يستفهم، فيقول مثلاً: "أخبرني عن السبب"، أو أنْ يستفهم بقوله: "وماذا أحْرَقك؟"، وهو في الأول أسلوب أمْرٍ حقيقي، وفي الثاني استفهام عن السبب، لكنَّ ذِكْرَ أركان الاستفهام كاملاً لا يُشعر بمزيد عنايته - صلى الله عليه وسلم - وحِرْصه على صحابته.

    وقد يأتي الاستفهام بمعنى العَجَب أو التعجُّب مقترنًا بمعاني أُخَر، كالإنكار والاستنكار، أو التوبيخ، ومن التعجُّب والإنكار أو الاستنكار قولُه - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد حِبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جاءَه يَطلب الشفاعة في تطبيق الحدِّ على المخزوميَّة التي سرقَت: ((أتشفعُ في حدٍّ من حدود الله؟))[120].

    فالتعجُّب من أن يأتيَ أسامة هذا الأمر، وهو أدْرَى الناس برسول الله؛ لملازمته له، وأمَّا الإنكار فمُستفاد من كون المطلوب الشفاعة فيه حدًّا من حدود الله، والمعلوم يقينًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهم جميعًا - ولا سيَّما أسامة - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتهاون في تطبيق شرْع الله - تعالى - وأنَّ الناس جميعًا عنده سواسية كأسنان المشط.

    ولَم نَقُل: إن الاستفهام للإنكار التوبيخي؛ لكون العلاقة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين أسامة هي علاقة الحب؛ ولذا لَم يَصِل الإنكار إلى حدِّ التوبيخ، فعلى مدى العلاقة بين السائل والمسؤول تكون درجة الإنكار، فخلاصة الاستفهام المفيد الإنكار أنَّه يفيد: "موقفًا هو للمتكلم من سامعه، يتمثَّل في أنه لا يقبل منه مضمون ذلك الاستفهام، وهذا الموقف على درجات أقصاها الإنكار أو التقريع، وأدناها العتاب، وما بينهما درجات تُلَوَّن وَفْق السياق"[121].

    وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليوبِّخ أصحابه وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم؛ كما وصفَه ربه - عزَّ وجلَّ -: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة: 128]، إلاَّ مَن أتى أمرًا يستحقُّ عليه التوبيخ؛ كما فعَل مع كعب بن مالك - رضي الله عنه[122].

    وقد يأتي الاستفهام مفيدًا معنى التعجُّب بالمعنى الثاني؛ أي: بمعنى الإعجاب والاستحسان؛ كما في سؤاله - صلى الله عليه وسلم - جبريل وقد رأى في رُؤياه قصْرًا، وإلى جواره امرأة تتوضَّأ، ((لِمَن هذا القصر؟))[123]، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، والجنة كلُّها نعيم، فرأى امرأة إلى جوار قصْرٍ تتوضَّأ، لكن القصر لفَت انتباهه، بقرينة السؤال عنه دون المرأة أو أيِّ شيءٍ آخر مما رآه في هذه الرؤيا، وسؤاله عن القصر تحديدًا في الجنة مُفيد إعجابه - صلى الله عليه وسلم - به، واستحسانه له، وهذا الاستفهام هنا أدَلُّ على إعجابه بالقصر واستحسانه، ولو قال مثلاً: مَن هذه المرأة التي تتوضَّأ إلى جوار القصر؟ لانْصَرف الاهتمام والاستحسان إلى المرأة، وليس إلى القصر.

    تاسعًا: التوبيخ والتقريع:
    التوبيخ: من وبَّخ؛ أي: لامَ، وعَذَلَ، وأنَّبَ، "يُقال: وبَّخْت فلانًا بسوء فِعْله توبيخًا"[124]، و"التقريع: التأنيب والتعنيف، وقيل: هو الإيجاع باللوم، وقَرَّعْت الرجل، إذا وبَّخْته وعَذَلْته"[125]، وواضح أنهما بمعنى قريب، إلاَّ أن التقريع أشدُّ في اللوم والتأنيب؛ لبلوغه درجة التعنيف والإيجاع، والتوبيخ قد يكون أقلَّ من ذلك في الشدَّة، ومَن يراجع أصل مادة "قرَع" في "اللسان"، يجد معناها يدور حول نزْع الشيء وسَلْبه، والضَّرب، وإنزال الأمر الشديد بالمقرَع، ومنه القارعة عَلَمًا على يوم القيامة، وهي "في اللغة النازلة الشديدة تنزل عليهم بأمرٍ عظيم"[126].

    ويكون التوبيخ والتقريع إذا ابتغى السائل بسؤاله إنزالَ عقاب نفسي بالمخاطب؛ لصدور شيء مشين منه، كان يجدر به ألاَّ يصدرَ منه، ووسيلة هذا العقاب المادية اللسان، ووسيلته المعنويَّة دَلالة الاستفهام، وقد يكون القصْد منه ردْعَ المخاطب وزجْرَه وكَفَّه عمَّا استوجَب توبيخه وتقريعه، وذلك إذا كان يُمكن أن يرتدعَ أو يستفيد من التوبيخ، فتجنَّب ما يستوجِبه فيما بعد، أمَّا إذا كان قد فات أوانُ الارتداع، ولَم يكن يمكن أن يستفيدَ المخاطب من التقريع والتوبيخ، فالقصْد حينئذ مجرَّد إنزال الألَم النفسي أو العقاب النفسي على المخاطب.

    وقد توخَّاه رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصد الأوَّل، ومن ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويلك! ومَن يعدِل إذا لَم أكن أعْدِل؟))[127]، وقوله: ((ما حملُكم على ذلك؟))[128].

    والاستفهام الأوَّل تعقيب منه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الرجل الذي أساء الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل اتَّهمه اتهامًا بالظلم؛ ولذلك استحقَّ التوبيخ والتقريع الشديد؛ ردعًا له وزجرًا، وهذا ما فَهِمه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقرينة استئذانه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَدَعه ليقتلَ هذا الرجل الذي أعلنَ الإسلام وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسَرَّ النفاق والشكَّ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقرينة وصْف الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجل ومَن يكونون على شاكِلَته بأنَّهم ((يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرَهم، يَمرقون منه كما يَمرُق السهم من الرَميَّة))[129].

    والاستفهام مع ذلك ثريٌّ غنِي بالدَّلالات الأُخَر، فيُسْتَشَف منه دَلالة النفي؛ أي: لا أحدَ يعدِل إذا لَم أكن أنا أعدِل، ومنها إظهار غضبِه - صلى الله عليه وسلم - على هذا الرجل، ولو اقتصرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قوله من الحديث: ((لقد خِبْتَ وخَسِرْتَ إن لَم أكنْ أعدل))[130]، لَم يُفْهَم منه هذه المعاني، بل اقتصَرت الدَّلالة على تأكيد خَيبة الرجل وخُسرانه، وهى دَلالة يُمكن أن تُستفاد من الاستفهام كذلك، والتصريح بها بعدُ في الحديث تأكيدٌ لها، وتشديدٌ على أنَّ مَن يتجاوز الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على حافَّة الدِّين - إنْ لَم يَتُب.

    وأمَّا التوبيخ والتقريع لمجرَّد إنزال العقاب النفسي بالمخاطب، فقد ورَد حكايةً منه - صلى الله عليه وسلم - عمَّا يدور من حوار يوم القيامة بين اليهود والنصارى وبين الملائكة، ونعني بها الاستفهامات التالية، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما كنتم تعبدون؟))[131]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فماذا تبغون؟))[132]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فما تريدون؟))[133]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا تردون؟))[134].

    فهذه الاستفهامات موجَّهة إلى اليهود والنصارى، كل على حِدَة، في موقف الحساب يوم القيامة، وليس القصْد منها حقيقيًّا، فالله - جل جلاله - يعلم افتراءَهم الكذبَ عليه بادعائهم عُزيرًا والمسيح أبناء لله - تعالى الله عما يقولون عُلوًّا كبيرًا - وسؤالهم عمَّا يريدون أو يبغون، وأمْر الملائكة إيَّاهم أن يَرِدوا بعد طلبهم السُّقيا، كلُّ ذلك إيهامٌ لهم، ولذلك اعتقدوا الأسئلة حقيقيَّة، فأجابوا والقصْد المبالغة في توبيخهم وتقريعهم، وإنزال أقصى عقاب نفسي بهم، قبل إنزال العقاب الأليم بهم، والقرينة قرينة السياق والحال، وقرينة أنهم يَطلبون السُّقيا، فيؤمَرون بالورود، وكأنه سيُسْتجاب لهم، فإذا بهم يَرِدون جهنم، "فيُحشرون إلى النار كأنها سرابٌ يحطِّم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار"[135].

    ومَزِيَّة مَجيء التوبيخ والتقريع بأسلوب الاستفهام، ما في الاستفهام من قُدرة على الإثارة وإيهام المسؤول - في مثل هذا الموقف - أنَّ السائل ليس لَديه منه موقفٌ مَبدئي، وحُكم مُسبق عليه.

    عاشرًا: العتاب:
    والعتاب: أدنى درجات اللوم والمَوْجِدَة، ولا يكون إلاَّ بين الأصْفياء من أحباب أو أخِلاَّء؛ قال الشاعر:
    أُعَاتِبُ ذَا المَوَدَّةِ مِنْ صَدِيقٍ [​IMG]
    إِذَا مَا رَابَنِي مِنْهُ اجْتِنَابُ [​IMG]
    إِذَا ذَهَبَ العِتَابُ فَلَيْسَ وُدٌّ [​IMG]
    وَيَبْقَى الوُدُّ مَا بَقِي العِتَابُ[136][​IMG]


    ومقام العتاب يكون إذا فَرَطَ من المعتوب عليه شيءٌ يكرهه العاتب، فيُعاتبه؛ رغبةً في "رجوع المعتوب عليه إلى ما يُرضي العاتب"[137]، فهو يتضمَّن إنكار ما بدَر من المعتوب عليه، ولكنَّه للعلاقة الخاصة بينهما - مِن وُدٍّ أو صَدَاقة - أوْجَب أن يُخرجه في لِينٍ وتَرَفُّقٍ وتَلَطُّفٍ؛ حِفاظًا على مشاعر المعتوب عليه؛ ولذا قيل: "التَّعتُّب والمعاتبة والعتاب، كلُّ ذلك مخاطبة الإدْلال، وكلام المدلِّين أخلاءَهم، طالبين حُسْن مراجعتهم، ومُذاكرة بعضهم بعضًا ما كَرِهوه مما كسبَهم الموجِدة"[138].

    والعتاب قد يكون باللفظ الصريح - كما في قول الشاعر آنفًا - وقد يكون مفهومًا من الأسلوب الذي يؤثِره العاتب دون ذِكْر لفظ العتاب أو المعاتبة، وهذا أبلغ تأثيرًا في المعتوب عليه؛ إذ فيه اختيارُ عدم مواجهة المعتوب عليه حتى بلفظ العتاب، وفي هذا إشعار العاتب معتوبَه بأنَّ ما صدَر منه لَم ينزلْ من مكانته عنده.

    وإذا ورَد بالاستفهام فهو أشدُّ بلاغة؛ لكونه إخراجًا له بصورة السؤال والجواب، وكأنَّ العاتب يَستفسر فحسب عمَّا بدَر، فيتفطَّن المسؤول المعتوب عليه إلى موضع المعاتبة ضمنيًّا، ففيه - إلى جانب عدم مواجهة العاتب معتوبَه بالعتاب - إظهارُ العاتب أنَّ ما يَعتب عليه فيه شيءٌ هَيِّنٌ، يَسيرٌ، فكأنه دون العتاب؛ ولذا يبدو كأنه يَستفسر، وفي هذا من اللباقة والأدب، والبلاغة والمحافظة على المشاعر ما فيه.

    وعلى هذا، جاء عتابه - صلى الله عليه وسلم - زوجاتِه وبعضَ أصحابه - رضوان الله عليهم - كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما تريدين ألاَّ يدخل بيتك شيءٌ، ولا يخرج إلاَّ بعِلمك؟))[139]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أي سعد، ألَم تسمع إلى ما قال أبو حُبَاب؟))[140].

    والأوَّل موجَّه إلى السيدة عائشة - رضي الله عنها - يُعاتبها فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تصدَّقت على سائلٍ وهو - صلى الله عليه وسلم - عندها، ثم دَعَت السائل مرَّة أخرى، أو دعَت بعودة ذلك الشيء الذي تصدَّقت به، "فنظرت إليه"؛ أي إنه قدر[141]، فعاتَبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مُراجعتها السائل مرَّة أخرى، ونظرها إلى ما تصدَّقت به؛ سواء أكان النظر لمجرَّد المعايَنة، أم رغبة في تقديره، فحاصِل الاستفهام: "أمَا تَرَينَ تقليل الصَّدقة ورزق الله؟"[142].

    وبلاغة عتابه - صلى الله عليه وسلم - عائشةَ هنا، أنه وجَّهها إلى التخلِّي عمَّا عاتبَها فيه، لا بطريق الأمر، ولا بتقرير عتابه، بل بطريق الاستفهام، كأنه يَستفسرها عمَّا فعلت، ورُبَّما فَهِمت السيدة عائشة - رضِي الله عنها - الاستفهام على معناه الحقيقي، فأجابت بـ"نعم"، وفي ذلك حِفاظ على مشاعر زوجته، فكثرة العتاب رُبَّما تؤدي إلى جرْح المشاعر والأحاسيس، فهو - صلى الله عليه وسلم - عاتَبها بطريق المفهوم لا المنطوق، فلمَّا أجابَت - بناءً على ما فَهِمت أنه عتابٌ لها على مُراجعتها السائلَ في صَدَقته لتنظر إليها - بـ"نعم" - أي: ما أُريد ذلك، بل أريد أن يعطيني الله تعالى من فضْله ورِزقه من غير علْمٍ لي به - بالضرورة نصَحها - صلى الله عليه وسلم - نصيحة للأُمَّة بعدها بأن تَستعمل "الرِّفق والتأني في الأمور، وتترُك الاستعجال المؤدِّي إلى أن تطلب علْمَ ما لا فائدة في علْمه"[143]، فقال لها: ((مهْلاً يا عائشة، لا تُحصي، فيُحصي الله - عز وجل - عليك)).

    وكذلك عتابُه - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بن عُبادة - رضي الله عنه - حين كان ذاهبًا لعيادته وهو مريض، فمرَّ على مجلس فيه مسلمون ومشركون ويهود، وفي المجلس عبدالله بن أُبَي بن سلول، فنزَل عن دابَّته، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فأغْلَظ ابن أُبَي بن سلول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - القولَ، وأساء الأدب؛ حتى كاد يقتلالجميع، فخفَّضهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسكتوا، ثم دخَل على سعد بن عبادة - رضي الله عنه - "فقال له: ((أي سعد، ألَم تسمع ما قال أبو حُباب؟)) يريد عبدالله بن أُبَي"[144]، فاسْتَفهمه "استفهامًا يَستبطن لومًا خفيفًا"[145].

    والموقف والسياق يحدِّدان القصْد من الاستفهام وهو العتاب هنا، فهو يُعاتب سعدَ بن عبادة؛ لكون عبدالله بن أُبَي زعيمهم، واعتذار سعد - رضي الله عنه - بما اعتذَر به للنبي - صلى الله عليه وسلم - يؤكِّد أن القصْد هو العتاب، وليس الاستنكار؛ لتصدُّر الاستفهام بالنداء المفيد للقُرب والحب، والقصْد من العتاب حثُّ سعدٍ والأنصار على لوم ابن سلول، وكَفِّه عن تجاوزه الأدبَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

    على أن معنى العتاب والمراد منه لَم يُلقه النبي إلى سعدٍ بطريق التقرير، كأن يقول مثلاً: "يا سعد، أنا عاتب عليك لِمَا قال أبو حُباب"؛ لأنه حينئذ سيفقد تأثيرَه ودَلالته على الحثِّ على كفِّهم ابنَ سلول عن تطاوُله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم في التقرير ما يُشعر بالمواجهة والحساب، وهو ما ليس في الاستفهام، بل خرَج الاستفهام على أنه استفسارٌ ورغبة في الحِفاظ على مشاعر الوُدِّ بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين سعد بن عبادة - رضي الله عنه.

    أحد عشر: الحث:
    والحثُّ: هو الحَضُّ على فعْل شيءٍ على وجْه السرعة، هذا ما يُستفاد من معنى "حثَّ" في اللسان[146]، والحثُّ في الاستفهام يُراد به دعوة المستفهم المخاطب إلى فعْل شيءٍ حسنٍ على وجْه الاستعجال، وأوْرَد له السيوطي قولَ الله - تعالى -: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ[التوبة: 13]، تحت معنى التحضيض، وهو بمعنى الحثِّ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا تُصَلُّون؟))[147]، و((يا معشر المسلمين، مَن يعذِرني من رجلٍ قد بلغَني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله، ما عَلِمت على أهلي إلاَّ خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما عَلِمت عليه إلاَّ خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلاَّ معي))[148].

    وفي هذا الحديث أيضًا: ((أي بَرِيرة، هل رأيت من شيءٍ يَريبك؟))[149]، وفيه أيضًا: ((يا زينب، ماذا علِمْتِ أو رأيتِ؟))[150].

    فقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي وفاطمة وقد طرقَهما ليلاً: ((ألاَ تُصَلون؟))، حثٌّ لهما وحَضٌّ على قيام الليل؛ لِمَا في قيام الليل من الخير وصلاح القلوب، غير أنَّه أخرَجه بصيغة الاستفهام، وليس غيره، كأن يقول: "قوما الليل"؛ تلطُّفًا منه - صلى الله عليه وسلم - وتودُّدًا في حثِّهم على قيام الليل؛ رغبة في مسارعتهم إلى الاستجابة لِما حضَّهما عليه.

    ولَم يُخرجه بصيغة الأمر؛ لأنها ستذهب بهذا التلطُّف في النُّصح، ورُبَّما فَهِما الأمر على حقيقته، فقاما على كُرْهٍ منهما، وهو ما لا يريده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرَجه بصيغة الاستفهام لذلك، وليشعرهما بحريَّتهما في الاستجابة أو عدمها؛ ولذا لَمَّا قال له علي كرم الله وجهه: "يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يَبعثنا بعثنا"[151]، انصرَف - صلى الله عليه وسلم.

    وأمَّا استفهاماته التالية - وكلها في الحديث (881) - فهي جميعًا تُفيد الحثَّ على اختلافٍ في الفعل المراد الحث عليه، فقوله - صلى الله عليه وسلم - لبريرة: ((أي بريرة، هل رأيت من شيءٍ يَريبك؟))، إنما هو حَثٌّ لها على أن تأتي بالشهادة على وجْهها الصحيح، فتُخبر بما تعرف، ولو كان شيئًا قليلاً، ويدلُّ على تلطُّفه - صلى الله عليه وسلم - وتراحُمه بها، وإشعارها بالقُرب منه والمودَّة لها بندائها بـ"أي" التي هي للقريب، وكذلك في سؤاله السيدةَ زينب: ((يا زينب، ماذا علِمْتِ أو رأيت؟)).

    أمَّا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن يعذِرني من رجلٍ بلغَني آذاه في أهل بيتي؟))، فهو حثٌّ شديد على أنْ يُنصفه أحدُ المسلمين ممن آذاه في أهله برَمْيهم بما ليس فيهم؛ قال الخطابي: "يحتمل أن يكون معناه مَن يقوم بعُذْره - أي ذلك الرجل - فيما رمَى أهلي من المكروه، ومَن يقوم بعُذري إذا عاقبْتُه على سوء ما صدَر منه؟ ورجَّح النووي هذا الثاني، ويؤيِّده قول سعد: "أنا أعْذِرك منه"[152]، "إن كان من الأوْس، ضربنا عُنقَه، وإن كان من إخواننا من الخزْرَج، أمرتَنا ففعلْنا أمرَك"[153].

    فهذا قاطع بأنَّ المراد من الاستفهام الحثُّ والحضُّ بقرينة الاستجابة الفورية من سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وبلاغة التعبير عن الحثِّ بالاستفهام ما فيه - كما قلنا - من تجنُّب مواجهة مَن يحثُّه المستفهم بصيغة الأمر؛ حرْصًا على الاستجابة وسرعتها، ولا سيَّما أنَّ الحثَّ في حدِّ ذاته لا يتضمَّن إلزامًا، بينما الأمر يقتضي الإلزام والتنفيذ، ولا سيَّما إنْ صدَر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا حُسن تَأَتٍّ للمراد بأفضلِ طريقة، وألطف أسلوب.

     

  5. الهامش

    [1] ابن فارس: أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا؛ الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها؛ تح: السيد أحمد صقر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، سلسلة الذخائر، العدد: 99، يوليو 2003م، ص292.
    [2] السابق نفسه.
    [3] ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، ابن منظور الإفريقي؛ لسان العرب، طبعة دار صادر، بيروت، ط1، 2000م، وطبعة دار المعارف، مادة "خبر"، ج 3، ص242.
    [4] السيوطي: جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر؛ الإتقان في علوم القرآن، طبع المكتبة الثقافية، بيروت، 1973، ج2، ص79.
    [5] د. حسني عبدالجليل يوسف؛ أساليب الاستفهام في الشعر الجاهلي: التركيب والموقف والدَّلالة، دراسة نحْوية وبلاغية لأساليب الاستفهام في ضوء الموقف الشعري، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1990م، ص5.
    [6] يتحفَّظ د. حسني عبدالجليل يوسف على تسمية "الاستفهام البلاغي"؛ لأنها - في رأْيه - تسميةٌ غير دقيقة؛ لأن نسبةَ الاستفهام إلى البلاغة يُمكن أن يشملَ النوْعَين: الحقيقي والمجازي على حَدٍّ سواء، وما رآه عِلَّةً لعدم الدِّقة في الاصطلاح، هو نفسه في رأْي الباحث عِلَّة الدقة! فمَن قال: إنَّ الاستفهام الحقيقي خالٍ من البلاغة؟ وقد قال: إن الاستفهام البلاغي يتجرَّد تمامًا عن معناه الحقيقي، وهو نفسه يقول عن الاستفهام المجازي، وهي التسمية التي يفضِّلها: "إن احتمال الجواب داخل في بِنية الاستفهام"؛ انظر: السابق، ص6.
    [7] د. خالدية محمود البياع؛ الهمزة في اللغة العربية، طبع دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1995م، ص 206.
    [8] انظر: محمد بن أبي بكر الرازي؛ مختار الصِّحاح؛ تح: محمود خاطر، مكتبة لبنان، بيروت، 1415هـ - 1995م، ص 307.
    [9] عبدالقاهر الجرجاني؛ دلائل الإعجاز؛ قرأَه وعلَّق عليه محمود محمد شاكر، القاهرة، طبعة سنة 2000م، طبعة خاصة من مكتبة الخانجي لمكتبة الأسرة، بالاشتراك مع الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص111.
    [10] كذلك ينبغي أن تكون دراستنا نصوصَ القرآن الكريم والحديث النبوي في إطار الضوابط الشرعيَّة، وأهمها ما ينبغي أن يربَّى عليه كلُّ مسلم، مِن معرفة ما يجب وما لا يجب في حقِّ الله - تعالى- وفي حقِّ رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
    [11] انظر: ابن فارس؛ الصاحبي، ص 293.
    [12] عبدالفتاح لاشين؛ المعاني في ضوء أساليب القرآن، دار المعارف بمصر، ط1، 1976م، ص 159.
    [13] السيوطي؛ الإتقان، جـ2، ص81.
    [14] انظر: السيوطي؛ الإتقان، جـ2، ص 79 - 80، والسيد أحمد الهاشمي؛ جواهر البلاغة: في المعاني والبيان والبديع؛ شرْح وتح: حسن حمد، دار الجيل، 2002م، ص65 - 66، وأحمد مصطفى المراغي؛ علوم البلاغة: البيان والمعاني والبديع، المكتبة المحمودية التجارية، والمكتبة التوفيقية، القاهرة، ط 6، 1972م، ص 72 - 75؛ فقد أوْرَد ثمانية عشر معنًى للاستفهام.
    [15] انظر: السابق، "الإتقان"، جـ2، ص 80.
    [16] الزمخشري؛ الكشَّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل؛ تح: عبدالرازق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1421 هـ2001م، جـ1، ص 284.
    [17] انظر: عبدالفتاح لاشين؛ المعاني في ضوء أساليب القرآن، ص 157.
    [18] انظر: الزمخشري؛ الكشَّاف، جـ1، ص 332.
    [19] انظر أبا حيان الأندلسي؛ البحر المحيط في التفسير، اعتنى به الشيخ عرفات العشا حسونة؛ مراجعة صدقي محمد جميل، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1412هـ، 1992م، جـ2، ص 624.
    [20] انظر: فتحي أحمد عامر؛ المعاني الثانية في الأسلوب القرآني، منشأة المعارف بالإسكندرية، ط1، 1976م، ص 373.
    [21] السيوطي؛ "الإتقان"، ج 2، ص 81.
    [22] ابن فارس؛ الصاحبي، ص 293.
    [23] محمد يوسف حبلص؛ البحث الدَّلالي عند الأصوليين، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 1411هـ، 1991م، ص31.
    [24] د. عبدالعزيز فتح الله عبدالباري؛ الثراء الفني لأسلوب الاستفهام، بحث مُحكم منشور بمجلة كُليَّة الآداب، جامعة الزقازيق، العدد 52، شتاء 2010م.
    [25] د. عبدالعزيز فتح الله عبدالباري؛ مسند الإمام الليث بن سعد: جمع وترتيب، وتصنيف وتخريج، طبع صوت القلم العربي للطبع والنشر، مصر، الطبعة الأولى، 1431 هـ - 2010م، وإذا أطلقْنا لفظَ المسند في هذا البحث، فإنما نعني به مسند الإمام الليث.
    [26] بلغتْ نسبة أسلوب الأمر 419 مرة بنسبة قدْرها 65,5%، والنسبة المئويَّة هنا هي بمقارنة عدد الأحاديث المروية بلفْظها في المسند، وعددها 639 حديثًا.
    [27] د. زين كامل الخويسكي؛ الجملة الفعلية: استفهامية ومؤكدة في شعر المتنبي، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية، 1986م، ص 25.
    [28] السيوطي؛ همع الهوامع شرْح جمع الجوامع في علم العربية؛ تصحيح السيد محمد بدر الدين النعساني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، د. ت، جـ2، ص69، وانظر كذلك: الشريف الرضي، شرْح الرَّضي على الكافية؛ تصحيح وتعليق يوسف حسن عمر، طبع جامعة قاريونس، 1398هـ، 1978م، ج4، ص391، 392، 448.
    [29] انظر: السابق شرح الرضي على الكافية، جـ4، ص447.
    [30] التفتازاني: سعد الدين التفتازاني مسعود بن عمر بن عبدالله، شرْح السعد المسمَّى: "مختصر المعاني في علوم البلاغة"؛ تح: محمد محيي الدين عبدالحميد، مكتبة محمد على صبيح وأولاده، القاهرة، د. ت، ج2، ص 99، مع تدخُّل يسير جدًّا، وانظر أيضًا: درويش الجندي؛ علم المعاني، دار نهضة مصر، القاهرة د. ت، ص 48.
    [31] راجع: المسند، ح رقم 154، والمواضع الأخرى، انظر: ح رقم 348، 496.
    [32] المسند ح رقم 20.

    [33] انظر: المسند، ح رقم 496.
    [34] انظر: المسند، ح رقم 7، 8، 587، 739، 884.
    [35] انظر على سبيل المثال: ح رقم 10، 154، 979.
    [36] انظر على سبيل المثال: ح رقم 154.
    [37] انظر على سبيل المثال، ح رقم 554.
    [38] انظر: المسند، ح رقم 7.
    [39] انظر: المسند، ح رقم 8.
    [40] انظر: المسند، ح رقم 210.
    [41] انظر: السابق نفسه.
    [42] انظر: المسند، ح رقم 740، 741.
    [43] انظر: المسند، ح رقم 777.
    [44] انظر: المسند، ح رقم 36.
    [45] راجع المسند، ح رقم 839 ، ومثله في ح 8، فأغلبه مَبني على الاستفهام، ففيه أربعة استفهامات، وح رقم 10 فيه ستة، وانظر أيضًا: ح رقم 980، 154، 496، 767.
    [46] انظر: المسند، ح رقم 3، 103، 349،480، 983.
    [47] راجع المسند، ح رقم 3.
    [48] راجع المسند، ح رقم 349.
    [49] اللسان، مادة قرَر ، جـ8، ص 469.
    [50] السابق نفسه.
    [51] السابق نفسه.
    [52] اللسان، مادة قرر، جـ8 ، ص 470.
    [53] السابق نفسه، ص 472.
    [54] الأزهر الزناد؛ دروس في البلاغة العربية: نحو رؤية جديدة، المركز الثقافي العربي، ط1، 1992م، ص 112.
    [55] المسند، ح رقم 531، 532، 533، ومثله في 210، 879.
    [56] المسند، ح رقم 20.
    [57] انظر: للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر، ت: 773هـ، "فتح الباري"؛ تح: محب الدين الخطيب، وترقيم محمد فؤاد عبدالباقي، طبعة المكتبة السلفية، ط3، 1407هـ، جـ6، ص505.
    [58] السابق نفسه.
    [59] انظر: شرْح الرضي على الكافية، جـ4، ص 448.
    [60] ابن قتيبة؛ تأويل مشكل القرآن؛ شرْح وتحقيق/ السيد أحمد صقر، طبع دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، ضمن مكتبة ابن قتيبة الكتاب الأول، د. ت، ص410.
    [61] الأزهر الزناد؛ دروس في البلاغة العربية، ص112.
    [62] المسند، ح رقم 88 ، ومثله في 839 ، 980.
    [63] السابق نفسه.
    [64] الأزهر الزناد؛ دروس في البلاغة العربية، ص 112.
    [65] اللسان: مادة نَفَى، ج10، ص247، والحديث الذي استَشْهَد به ابن منظور أخرَجه مسلم في الحج، باب المدينة تنفي شِرارَها، ح رقم 489، صحيح مسلم بشرْح النووي؛ للإمام محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، 631هـ - 676هـ ؛ تخريج وتعليق محمد محمد تامر، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 0 142هـ - 1999م.
    [66] انظر: عبدالعزيز عبدالمعطي عرفة؛ من بلاغة النظم العربي: دراسة تحليليَّة لمسائل علم المعاني، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1405هـ - 1984م، ص 124.
    [67] المسند، ح رقم 739.
    [68] السابق نفسه.
    [69] د. عبدالفتاح لاشين؛ المعاني في ضوء أساليب القرآن، ص155 - 156.
    [70] انظر: المسند، ح رقم 160.
    [71] السابق نفسه.
    [72] انظر المسند، ح رقم 839، 980، وراجِع ص 10 من هذا البحث.
    [73] د. عبدالقادر حسين؛ فن البلاغة، دار نهضة مصر، القاهرة، د. ت، ص 125.
    [74] المسند، ح رقم 348.
    [75] الأزهر الزناد؛ دروس في البلاغة العربية، ص 113.
    [76] المسند، ح رقم 363.
    [77] المسند، ح رقم 160.
    [78] المسند، ح رقم 777.
    [79] د. عبدالرازق أبو زيد زايد؛ علم المعاني بين النظرية والتطبيق، مكتبة الشباب القاهرة، ط2، 1407هـ -1987م، ص 71.
    [80] انظر : د. عبدالفتاح لاشين؛ المعاني في ضوء أساليب القرآن، ص 157.
    [81] عباس حسن؛ النحو الوافي، دار المعارف، ط 11، د. ت، جـ4، ص 144.
    [82] اللسان: مادة ثور، جـ2، ص 148.
    [83] اللسان: مادة شوق، جـ6، ص 239.
    [84] المسند، ح رقم 781.
    [85] المسند، ح رقم 228، ومثله في 176، 733، 793، 1023.
    [86] الأزهر الزناد؛ دروس في البلاغة العربية، ص 117.
    [87] المسند، ح رقم 793.
    [88] الزمخشري؛ أساس البلاغة، طبع دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1420هـ - 2000م، ص 486.
    [89] المسند، ح رقم 495، 499.
    [90] المسند، ح رقم 979، والموطن الثالث في ح رقم 25.
    [91] انظر: المسند، ح رقم 495، والحديث رقم 2268 من كتاب الطلاق، باب القافَة في سُنن أبي داود؛ لأبي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني الأزرجي، 202هـ - 275هـ؛ تح د. السيد محمد سيد، ود. عبدالقادر عبدالخير، والأستاذ سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1420هـ - 1999م.
    [92] شرْح صحيح مسلم؛ للنووي، جـ5، ص 266، وانظر كذلك: فتح الباري؛ لابن حجر، جـ12، ص 67.
    [93] انظر: هامش ح رقم 499 من المسند.
    [94] ابن حجر؛ فتح الباري، جـ12، ص 66.
    [95] انظر: المسند، ح رقم 979.
    [96] اللسان: مادة دَرَج، جـ4، ص 51.
    [97] السابق نفس المادة والجزء، ص 52.
    [98] المسند، ح رقم 839 .
    [99] المسند، ح رقم 496، ومثله في 36 ، 554 ، 940.
    [100] انظر: فتح الباري؛ لابن حجر، جـ7، ص 616، وانظر كذلك: الرحيق المختوم؛ للمباركفوري، صفي الرحمن المباركفوري، دار الدعوة الإسلامية، القاهرة، 1422هـ - 2001م، ص 383.
    [101] وفي هذا الحديث من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - إخباره عن الغيب، وتكليم ذراع الشاة المسمومة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
    [102] انظر: عبدالعزيز فتح الله عبدالباري؛ آيات التوحيد في القرآن الكريم: دراسة في الأسلوب - رسالة ماجستير، مخطوطة بكلية الآداب جامعة بنها،2001م، ص169.
    [103] اللسان: مادة ورَقَ، جـ10، ص 627، والأوْرَق من الناس: الأسمر.
    [104] اللسان: مادة دَرَك، جـ4، ص 66.
    [105] اللسان: نفس المادة والجزء، ص 67.
    [106] المسند، ح رقم 3، 103.
    [107] المسند، ح رقم 480، ومثلُه في ح رقم 349، 983.
    [108] انظر: صحيح مسلم، شرْح النووي، ج7، ص30، والنسائي، سنن النسائي، المجتبى بشرْح الإمامين: السيوطي والسندي؛ تح: السيد محمد سيد، والأستاذ علي محمد علي، والأستاذ سيد عمران؛ ضبَط أصوله د. مصطفي محمد حسين الذهبي، طبع دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى، 0 142هـ، 1999م، ج3، ص 337.
    [109] أخرَجه مسلم في الإمارة، باب: "مَن قُتِل في سبيل الله، كُفِّرت خطاياه، إلاَّ الدَّيْن"، ح رقم 0 12.
    [110] انظر: المسند، ح رقم 497 و 1011.
    [111] انظر: منهاج المسلم؛ أبو بكر الجزائري، مكتبة العلوم والحِكَم، المدينة المنورة، د. ت، ص 377.
    [112] أخرجه النسائي في الجهاد، باب من قاتل في سبيل الله تعالى، وعليه دين، ح رقم 3155.
    [113] هذه الرواية أخرَجها النسائي أيضًا في الكتاب والباب المذكورَيْن في الهامش السابق، ح رقم 3158.
    [114] اللسان، مادة: عجَب، جـ7، ص 221.
    [115] السابق: نفس المادة والجزء، ص 222.
    [116] السابق نفسه.
    [117] الأزهر الزناد؛ دروس في البلاغة العربية، ص 114.
    [118] المسند، ح رقم 55، 59،891.
    [119] انظر: المسند، ح رقم 367، ومثله في 366، 394، 997.
    [120] المسند، ح رقم 511، 522، ومثله في: ((أتريد أن تكون فتانًا يا معاذ؟!))، ح رقم 174، و((أَوَفي شَكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟!))، ح رقم 551، و((أَتَشُقُّه؟!))، ح رقم 554، وكذلك في 573، 574، 575، 718.
    [121] الأزهر الزناد؛ دروس في البلاغة العربية، ص 115.
    [122] في قوله - صلى الله عليه وسلم - لكعب : ((ما خلَّفك؟ ألَم تكن قد ابتعْتَ ظهْرَك؟))؛ انظر: المسند، ح رقم 847 .
    [123] المسند، ح رقم 66، 67.
    [124] اللسان، مادة: وبَّخ ، جـ10، ص 550.
    [125] اللسان، مادة: قرَع، ج 8، ص 491.
    [126] اللسان، نفس المادة والجزء، ص490.
    [127] المسند، ح رقم 347.
    [128] المسند، ح رقم 839، 980.
    [129] المسند، ح رقم 347.
    [130] انظر السابق.
    [131] المسند، ح رقم 9،10.
    [132] المسند، ح رقم10.
    [133] المسند ح رقم 9.
    [134] المسند ح رقم 10.
    [135] انظر: السابق نفسه.
    [136] أوردهما ابن منظور في اللسان، مادة: عتَب، ج 7، ص 199، ومن ذلك أيضًا قول بشار بن بُرد:
    إِذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الأُمُورِ مُعَاتِبًا [​IMG]
    صَدِيقَكَ لَمْ تَلْقَ الَّذِي لاَ تُعَاتِبُهْ [​IMG]

    [137] السابق: نفس المادة والجزء والصفحة.
    [138] انظر: السابق نفسه.
    [139] المسند، ح رقم 337.
    [140] المسند، ح رقم 818 ، 970، ومثله في 86 ، 1016، 1035.
    [141] انظر: سُنن النسائي، ج3، ص 27؛ تعليق السندي على ح رقم 2548.
    [142] السابق نفسه.
    [143] انظر: الهامش 151.
    [144] المسند، ح رقم 818، 970.
    [145] الأزهر الزناد؛ دروس في البلاغة، ص 116.
    [146] انظر: اللسان، مادة: حثَثَ، ج3، ص 46.
    [147] المسند، ح رقم 272.
    [148] المسند، ح رقم 881 .
    [149] السابق نفسه.
    [150] السابق نفسه.
    [151] المسند، ح رقم 272.
    [152] ابن حجر؛ فتح الباري، ج 8، ص 580.
    [153] المسند، ح رقم 881.
     
  6. إبن الوفاء

    إبن الوفاء عضو نشيط

    بار الله فيك و جزاك حيرا
     
  7. خالد الإدريسي

    خالد الإدريسي عضو متميز

    [​IMG]
     
  8. معهد

    معهد عضو نشيط

مشاركة هذه الصفحة